You are here:   Home  /  وثائق  /  عبد العزيز العناني يتذكر صالح عبد الحي

عبد العزيز العناني يتذكر صالح عبد الحي

كتاب: صالح عبد الحي

عبد العزيز عناي علي ابراهيم

رئيس جمعية أحياء التراث أستاذ الجراحة بكلية الطب القاهرة

وكيل جمعية أصدقاء سيد درويش 1995

 

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرياتي مع المطرب الكبير الأستاذ صالح عبد الحي (بقلم عبد العزيز عنانى)

حقا إنها ذكريات جديرة بالتأمل والعظة تهم كل دارس ويسعد بها كل مهتم بتاريخ تراثنا الغنائي الجميل وكل كحب لهذا الفنان المبدع الذي رحل عنا في شهر مايو سنة 1962 فقد تعرفت شخصيا بالمطرب الكبير في أخريات أيامه. وإذا رجعنا إلى الوراء قليلاً أقول إنها كانت علاقة قديمة ترجع إلى أيام والدي المرحوم محمود عناني وكان مقاولاً كبيراً للبناء وصاحب مصانع لمواده بالقاهرة وبحلوان. وكان صديقاً حميماً للأستاذ صالح عبد الحي وكان منزلنا بشارع حسين واصف بالحلمية الجديدة ملتقى لاجتماع كبار هواة الاستماع والطرب وتعرف هذه المجموعة بشلّة الحلمية وعلى رأسها المطرب الكبير صالح المطرب الكبير صالح عبد الحي وكوكب الشرق أم كلثوم ومحمد دبشة الجزار والشيخ عبد العزيز البشرى وحسن التركاوي من أعيان مصر والشباسى صاحب مخابز الحلمية وعزوز العشّى وأمين بك المهدي عازف العود الشهير والشيخ أبو العلا محمد وغيرهما مما لم أتذكره من الأسماء.

وطبعاً فإني لم أدرك هذا العصر حيث كان ذلك في العشرينات وإنما سمعت عنه ممن عاصروه مثل محمود بك رأفت عازف وهاوي آلة القانون وإسماعيل بك رأفت عازف الكمان وأيضاً صالح نفسه.

وأحياناً أخرى يذهب صالح عبد الحي والجمع المذكور إلى منزل صديقه الشيخ أبو العلا محمد بحي سكة سوق مسكه بالحنفي بالسيدة زينب ومن العجيب أن هذا الحي هو مسقط رأس صالح عبد الحي أيضاً. وما أن يعلم أهل الحي بحضوره حتى يستعدوا جميعاً لملاقاته ويمر صالح على أشهر كبابجي في الحيّ ويدعى الحاج أحمد وينبه عليه بعدم البيع للناس ويجهز كل أنواع الشواء وترسل تباعاً لمنزل الشيخ أبو العلا ولا مانع من تكليف بعض الجزارين بالحي بفتح أبواب محلاتهم ليلاً لإحضار لحوم الضأن الموجودة بها لمتابعة إرسال الشواء إلى الحفل ولا مانع أيضاً من تجهيز ما يوجد بالمصمط من رؤوس الضأن والحلويات لإرسالها. وأيضاً محلات الفاكهة وخلافها ويحاسب عليها صالح صباح السهرة من جيبه الخاص بعد ما يدعو كل من يمر على ذهنه من الأصحاب والمحاسيب والأصدقاء لحضور هذه الولائم التي تتكرر من آن لآخر.

وكانت أم كلثوم تشرف بنفسها على إعداد وتجهيز الأطعمة الممتازة بل وتشارك أيضاً فيما يطلب لطهوها. ثم تشرع في الغناء أولاً بعد امتناع صالح عبد الحي كعادته بحجة الإرهاق. وبعد أن أبدعت أم كلثوم في أداء ألحان الشيخ أبو العلا واختتمت غناءها قال لها أحد السمعية الحاضرين ذات ليلة أنه سيجيء اليوم الذي تغنى فيه أم كلثوم وتتقاضى أجراً لها عشرة جنيهات في الليلة الواحدة فقالت أم كلثوم ” يا ريت وأطبخ لكم كل الأصناف بيدي”.

ثم يجيء دور صالح عبد الحي ويشرع في الغناء والإبداع المبدع الساحر والأكل المتواصل حتى بعد طلوع الفجر. وهكذا ينتقل الجميع بالتناوب في سهراتهم من منزل إلى منزل لا يربطهم إلا الفن والغناء والمتعة.

وبعدها صار صالح عبد الحي يوالي حضوره لمنزلنا الجديد بجوار سراي الملك بحي عابدين وقد أدركت بنفسي حضور هذا العصر والمقابلات التي كانت تتم في الحجرات بالدور الأرضي المعروفة بالمنادر التي كانت معدة لاستقبال الحاضرين من الرجال وكانت هذه المنادر مرصوصة بالمقاعد والمناضد الرخامية مفروشة الأرضية بالسجاد. كما كانت تعقد فيها أيضاً جلسات المقرئين لقراءة القرآن الكريم صبحاً وعصراً من كل يوم يختتم فيها قرآن في نهاية كل شهر عربي.

وبعد رحيل الوالد وانقطاع الصلة بصالح عبد الحي مدة طويلة. وفي الخمسينات عندما تجاوزت مرحلة الشباب أشار على البعض من أصدقائه القدامى أن أقوم بالاتصال به خصوصاً أنه كان صديقاً حميماً لوالدي وأصبح الآن معتكفاً في منزله مريضاً. فوجدت لزاماً على أن أقوم بذلك ولكني ترددت معتقداً وكيف يتذكرني صالح بعد هذا الزمن. وأخيراً تجرأت واتصلت به تليفونياً ذات يوم. فرد على وكم كانت دهشتي بالغة حينما جاء رده عنيفاً وشديداً قائلاً ” نعم يا حبيبي؟”. ولا شك أن هذا راجعاً إلى عقدة عنده من معاكسات التليفون من المستهترين والمستهزئين فأجبته بهدوء بأني فلان وإن كان يناديني باسمي عند حضوره لمنزلنا بعابدين. وهنا تبدل العنف إلى ترحاب بالغ بعد ما تكرني وقال ” وإيه الغيبة الطويلة يا أصيل يا بن الأصيل” ثم أجهش بالبكاء قائلاً ” أنت لسه في منزلكم بعابدين؟” فقلت له إني أسكن الآن بفم الخليج. فقال ” احضر إلينا لأقابلك وأراك وخذ العنوان عندك”: كبرى القبة محطة الجراج الدور الأرضي بالعمارة البيضاء أمام الجراج ” فقلت إن شاء الله سأكون عندك عصر الجمعة القادم ثم أردف قائلاً ” إن أحداً من الأصدقاء لم يزرني ولا من الفنانين وأنا أعاني الوحدة والمرض”.

فذهبت يوم الجمعة حسب الموعد ففتحت لي باب الشقة إحدى السيدات وكانت كبيرة السن وتعمل لديه لخدمته ولا يوجد أحد غيرها. ثم أدخلتني إلى غرفة نومه وكان يجلس على كرسي كبير بجوار السرير فذهلت حيث وجدته ممتلئ الجسم يرتدي جلبابا ولعله على الجسم مباشرة عاري الرأس. فحاول القيام دون جدوى وبصعوبة بالغة قائلاً ” مرحب بابن الحبيب”. ثم شرع يتكلم بكل طلاقة وحجة شاكياً هجر الأصدقاء والذين كانوا يحيطون به وخصوصاً تنكر الإذاعة له وهي التي دأبت على ألا تذيع له إلا النذر اليسير والقليل من الأعمال رغم كثرتها لديهم.

ثم صار يحكي عن أمراضه التي يعاني منها وهي السكر وتصلب الشرايين وضغط الدم والروماتيزم وكل ما يمكن إضافته من صنوف  الأمراض ولا يؤرق نفسه سوى آلام المفاصل في ركبتيه وقال ” ولكن الحمد لله أن صوتي لا يوال موجوداً” وأشار إلى حلقه ورقبته. ثم أردف يقول أنه يستحق كل هذا حين أطلق لنفسه العنان لهواها ولم يعمل حساباً للزمن ومآسيه. ومن المعروف أن صالح عبد الحي ليس له أولاد بل لم يتزوج قط وعاش طوال حياته فريداً مع حاشيته من الخدم والسائقين والسفرجي وعمال العربات والخيول والجناينية وغيرهم.

وبعد أن طلب لي القهوة صار يتكلم عن الماضي شارحاً العصر الذهبي الذي صادفه وذكرياته الجميلة فيه والذي لم يصادف مثله إلا القليل بحديث شيق جذاب ينساب من خلاله سلامة الطوية والقلب ورقة الإحساس والتواضع الجم. وكيف أنه كان لا يستمع إلى نصح الناصحين والمخلصين له من أصدقائه ومعارفه الكثيرين.

ولقد مكثت معه في لقائنا الأول زهاء ثلاث ساعات متواصلة لا يكف فيها عن الحديث. وكلما هممت بالانصراف كان يمنعني من الوقوف وحاولت تركه مراراً كي يستريح. وفي هذا اللقاء فتح لي قلبه بكل صدق. وفي الجمعة التالية عندما حضرت صادفت هناك الموسيقار محمد عبد الوهاب يجلس مع صالح عبد الحي وكان قد أحضر له جهاز راديو صغير فاخر هدية منه. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها عبد الوهاب ويراني هناك. ووجدت فيه رقة الإحساس ودماثة الأخلاق والأدب العالي.

وبعد انصراف عبد الوهاب استرسل معي صالح عبد الحي في الحديث فقلت إنني أقتني من الأسطوانات القديمة التراثية الشيء الكثير وخصوصاً أسطواناته وأسطوانات خالد عبد الحي حلمي فدهش كثيراً وأسرع قائلاً إن لديه أسطوانات كثيرة كان يستمع إليها من قديم ولكنه الآن لا يمكنه الاستمتاع إليها بسبب عطل بالفونوغراف الموجود عنده. فتعهدت إليه بإرسال أحد المتخصصين في الإصلاح عنده بالمنزل في الأحد القادم أو الذي يليه وإن لم ينفع الإصلاح فيمكن استبداله بجهاز آخر. فظهرت عليه علامات السرور والبشر. ولقد أرسلت هذا الشخص إلى منزل الأستاذ صالح يوم الأحد كما وعدت منبها بعدم أخذ الأجر إلا مني بعد الإصلاح، وهو من عملائي الذي أتعامل معهم في شراء الأسطوانات من محله خلف سوق الخضار بالقبة الخضراء. فأتم العامل تركيب الجزء التالف من الجهاز والتشحيم والتزييت وصار الجهاز جديدا مع تجربة الاسطوانات والاستمتاع. وقد سر صالح سرورًا بالغا وقال للعامل ماذا تطلب من الأجر فأبى أن يأخذ منه شيئا قائلا إن الأستاذ عبد العزيز قد دفع لي الأجر فلم يعجب صالح هذا الكلام وكان الإصلاح لا يتجاوز عادة جنيها واحد فقال صالح إذن فهذه خمسة جنيهات بصفة البقشيش. وكان من طبعه الكرم الزائد وتلك عادة متأصلة فيه.

وعند حضوري في الجمعة التالية كعادتي وجدت صالح يتيه فرحًا وسرورًا ويقوم بالاستماع للاسطوانات الموجودة عنده يتناوبها ليلاً ونهاراً يستعيد بها ذكرياته وكانت للمرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي المتوفى سنة 1911، فقلت له وأين أسطوانات خالك عبد الحي حلمي فقال إن عبد الحي ليس له حظاً في الاسطوانات التي لم تعتني بصوته وجاءت مخالفة له. وإنما الشيخ يوسف فهي تمثله في الألحان القديمة تماماً. وهنا قال متسائلاً أن هناك مطرب عظيم يدعى أحمد حسنين وهو من حي الجزيرة قرب الناصرية بعابدين وهذا المطرب كان المذهبجي الأول للفنان الكبير عبده الحامولي وصوته قريب الشبه منه وصوته (بلغمي) ولكنه يؤدي أصعب الألحان وأقسى (العفقات) وله تسجيلات قليلة من عام 1940. فقلت إن جميع تسجيلاته لدى بمكتبتي الموسيقية وهي أربعة فقط منها دور (كنت فين والحب فين) ودور (الحلو لما انعطف) ودور (الصب من أول نظرة) و موشح (ليالي الوصل عندي عيد) ودور (فضل زماني يواعد) وموال (يا مالك الروح والقلب الشجي أهلا) ووعدته بإحضارها له. وكانت مكررة طبعاً بالمكتبة وهذه هي عادة قديمة للهواة في اقتناء وتكرار الأعمال النفيسة النادرة وأحضرتها له في الأسبوع التالي مع عدد آخر ينقصه من الاسطوانات المختلفة. ففرح بذلك فرحاً شديداً وحاول دفع أثمانها مراراً فلم أمكنه من ذلك قائلاً إن هذه هدية متواضعة فقال: “الله يرحم أبوك هذه كانت بعض صفاته العديدة وكم كان ينصحني مراراً عديدة لمصلحتي فلم أستمع وحسبت أن الدنيا ستستمر فر زخرفها” ثم صمت هنيهة وترقرقت عينيه دمعاً وقال:” ماذا فعلتم في قطعة الأرض بميدان الروضة ومساحتها 600 متر بجوار الجامع والتي اشتراها والدكم لكم ؟”. فعجبت قائلاً إنه لا توجد لنا أرض هناك فقال إنه قد اشتراها باسمي بمبلغ 600 جنيهاً من مدخرات كنت أدخرها عند والدكم فاختلقت زعلاً وغضباً من هذا التصرف وأني لا أحب شراء الأرض ولا العقارات أنا عاوز فلوسي فقط. فغضب مني وأحضر المبلغ ورمى به إليّ أمام الأستاذين محمود بك رأفت وإسماعيل بك أخيه. ومن العجيب أني خسرت هذا المبلغ بأجمعه في ليلة واحدة على الموائد الخضراء وفي صبحها اقترضت مبلغ خمسة جنيهات واصطلحنا بعدها بدون تعامل وعرفت أن الأرض آلت إليكم.

وبالرغم من معاملات صالح عبد الحي مع الناس بالرقة، كانت تعتريه بعض نوبات الصرامة والقسوة وذلك بأنه كانت تربطه بأحد الأشخاص معرفة وكان صديقاً له يعمل مدرساً بالصناعات الزخرفية ويقوم بتصنيع الآلات الموسيقيّة وخصوصاً الأعواد البديعة الصنع الغالية الثمن وطلب منع صالح أن يحضر له عودين من خلاصة الأعواد. وكان هذا الشخص فناناً نادراً يتأخر في الصنع كعادة له، فحضر له بالعودين في وقت كان صالح يقوم بالاستعداد للخروج من منزله لإحياء إحدى السهرات في مساء أحد الأيام فنهره صالح وصاح فيه “ما سبب تأخيرك” وقال ارجع بهما من حيث أتيت. فرد عليه بأنه سيترك العودين لحين فضائه ليوم آخر خصوصاً وأنه تقاضى ثمنهما وأصر صالح على عدم استلام العودين وأصر على طرده بهما.

وفي أحد أيام الجمع أراد صديق فاضل وزميل كان يعمل مدرساً بمدرسة القريبة بعابدين الذهاب معي إلى منزل صالح عبد الحي فذهبنا سوياً إلى منزله وأبصرنا صالح من فتحة الباب وبعث لنا بالقهوة واعتذر عن عدم المقابلة بسبب عد القدرة فانصرفنا. وحدث أن اتصل بي صباح السبت في اليوم التالي بعملي قائلاً ” إيه يا سي عبد العزيز هذا الشخص الذي أحضرته معك بالأمس عندي” فقلت إنه صديقي يريد أن يراك لأنه يحبك وعلى أية حال فإني آسف معتذراً إليك بعدم الأستئذان في ذلك فقال: “إني خشيت أن يكون أحد الكتاب الذين يكتبون في الصحف ليراني على حالتي هذه. وعلى هذا فيمكن حضوركم مع صاحبكم في الأسبوع القادم فأعتذر الصديق عن الحضور.

سألت الأستاذ صالح عبد الحي يومأ عن الأغاني الحديثة التي غناها في الإذاعة أخيراً وخصوصاً أغنية “ليه يا البنفسج” من ألحان الأستاذ رياض السنباطي الشهيرة، فقال الأستاذ رياض السنباطي ملحن عظيم ومتمكن وإني غنيت هذه الغنية بطريقتي الخاصة التي أغنى بها من السماعي إلى التقاسيم والليالي ثم اللحن وأتصرف فيه كما أريد ولا شك أنه عندما تستمع إلى هذه الأغنية في عدة حفلات ترى أنها تختلف من تسجيل لآخر وبها إرتجالات هامة وأردف قائلاً إن الألحان والملحنين الجدد أغني ألحانهم وأتصرف فيها بطريقتي الخاصة علاوة على الألحان القديمة التراثية.

ثم توطدت العلاقة بيني وبين صالح عبد الحيّ وتوالت زيارتي أيام الجمع. فذهبت عليه يوماً فوجدته طريخ الفراش يرقد على ظهره رافعاً عينيه إلى السقف غير قادر على التكلم والتحدث كعادته. وقد رحل عنا بعد أيام دون أن يشعر به أحد.

وفي السرادق المعد للعزاء أمام منزله لم أجد هناك سوى اثنين من المقرئين هما صديقه الشيخ محمد عكاشة والآخر الشيخ محمد الفيومي وفي السرادق لم أصادف سوى المطرب القديم أحمد المحلاوي فقط وانطوت بذلك صفحة هامة في تاريخ الفم بمصر.

وأود بعد ذكر هذه المعالجة أن أذكر الحديث الذي نشره الصحفي السيد/ محمد السيد المويلحي بالمجلة الموسيقيّة بالعدد 47 الصادرة في 88/3/1938 يقول فيه:

صالح عبد الحي

فنطاس هائل عبأه الله شحماً ولحماً ثم أبسط له في الجسم والطول (بشرة) حمراء لغرين النيل سمراء لجلد الفيل أو كالفلفل الأصيل.

وجه غريب القسمات. عينان رغم افتراشهما والتحاقهما بأكياس اللحم والشحم إلا أنهما حديديتا النظر قوية البصر. أنف مبطط فم منتفخ الشفتين إذا انفرج فمن أسنان كالدبابات أو الكراكات لك يخلقها الله إلا لتمزيق الديوك والخراف وغزو جميع ما يوضع في الصحان وغير الصحان. عنق لا تراه من اللحم والشحم العظيم. أذنان كآذان الفيل. قلب كبير يعرف كيف الودّ ويبقى على الحب ويستمر وفيا مادام في الدنيا وفاء. صوت قوي صاخب لا تنقصه الليونة والعذوبة والحلاوة. ولعله أقوى الأصوات وألمعها لوناً ولعل صاحبه المطرب الوحيد الذي تتمثل في صوته قوة الرجولة وصرامتها فلا بكاء ولا عويل ولا ضعف ولا دموع ولا آهات تترجم الخنوثة وتصور الشهوة أشنع تصوير. بل صوت صارم جميل. يأسر قلوب الرجال وإعجابهم لأنه يرتفع بهم عن مواطن الضعف والذل واللوعة ويسحر قلوب النساء وإعجابهم لأنه يحملهن حملاً على الاعتراف بقوة الرجولة. يحب الموسيقى العربية حبًّا يملك كلّ ذرة في جيمه ونقطة في دمه ويحفظ أدواراً لرجالها الأقدمين حين يعرف جيداً كيف يؤديها أداءً ساحراً ويلقيها إلقاءً جيداً يطرب النفس ويملك الحسّ في ذلك شأن خاله عبد الحي حلمي المطرب المعروف. إلا أنه لك يحاول التلحين ولم يزاوله إلا مرات قليلة فشل فيها فشلاً ذريعاً وعرف أنه لم يخلق ليكون ملحناً وإنما مطرباً فقط. له جمهرة كبيرة من المعجبين والمعجبات تنتظره بذاهب الصبر وتشجعه تشجيعاً كريماً وتدافع عنه دفاعاً مجيداً وتفضله على الجميع لأنه في رأيها سيد الجميع. كسله من النوع المزمن الذي يختلط بالدم والروح ويتسرب في أعماق النفس فيطبعها بطابعه فهو من أولئك الذين يودون أن يظلوا طوال حياتهم يلهون أو يلعبون الطاولة مثلاً تحمل الملائكة إليهم أرزاقهم!! حاول أن يتعلم العزف على العود فلم يوفق لا لضعف وعدم استعداد أو أن التعليم من العسر بحيث لا يستطيعه. وإنما كسله يأبى عليه ذلك والطريف في الأمر أنه كان يتحايل على مدرسة  بشكل ظريف فكلما جاءه مدرس العود وهو صديقه وصديقنا ليختبره في الدرس الذي أعطاه له سأله أبو صلاح تعرف تلعب طاولة فيجيبه سلباً فيقول له: إذا تعلمت أنت لعب الطاولة أنا الضرب على العود. يا ليل يا ليل: هذا هو النداء الذي حكم عليه أستاذنا بالسجن المؤبد الذي لا فكاك منه أبداً. بل حكم عليه بأكثر من التأبيد فمن خمس وعشرين سنة والأستاذ يناديه ويردده ويردده ويناديه بأن يترك له الحريّة ولو في حفلة واحدة مع أن أقسى تأبيدة على هذه المدة ومن اجل هذا سمى (الأستاذ يا ليل) يحب مجالس الشراب ويعتبرها ضرباً من ضروب النعيم ولوناً من ألوان الترف لا ينجلي إلا بها فمتى انجلى لا يكترث بمجمع ولا يأبه لحفل بل يرسل نفسه على سجيتها ويطلقها على حريتها فتخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. كريم النفس سخى اليد أنفق الأموال الطائلة التي كانت تنهال عليه كل يوم. لا يعرف الهم ولا يسمح له أن يعرف لا يضيره أن يبذل كل ما يملك لأنه يعتقد أن بينه وبين المكسب (كنتراتو) أبدى والغريب أن الشعب يحقق ظنه أنه يحب فنه. بلغ في أيام مجده الأولى مرتبة لم يسبق إليها سابق. كان يتحكم في الأفراح والولائم فيؤخرها بالشهور لأن (نوتته) كانت تحتوي على مائة حفلة متلاحقة ولن يفضي إلا بعد ثلاثة شهور كوامل. وهو من المطربين الذين شرفوا الأجور تشريفاً كبيراً وسموا بالجعول سمواً كبيراً. كثيراً ما بلغ قي ليلة واحدة 240 جنيهاً. مطرب محبوب لتواضعه وظرفه يحب إخوانه ويعطف على الفقراء منهم. حظي بالمثول بين يدي (مولانا الفاروق) في حفلات تتويجه وزفافه فنال الرضاء السامي والإعجاب الكريم. وقد سبق أن نالهما أيضاً من المغفور له المبم فؤاد الأول والسلطان حسين كامل ومن سمو الخديو السابق عباس حلمي.

محمد السيد المويلحي

  2013  /  وثائق  /  Last Updated مايو 25, 2013 by  / 
WP-Backgrounds Lite by InoPlugs Web Design and Juwelier Schönmann 1010 Wien