البحث عن غطاء البحر النائم:
مصطفى سعيد:
في ليلةٍ نادرة الحدوث بالقاهرة من حيث شدّة البرودة أوائل ١٩٩١ أذاعت بيبيسي العربيّة ندوةً بمناسبة مرور ثلاثين سنةً على رحيل “شيخ الملحّنين:” كما لقّبوه، الشيخ زكريّا أحمد، ضمّت هذه الندوة ضمن من ضمّت ابنة الشيخ، كرامة زكريّا أحمد، غنّت السيّدة كرامة هذا اللحن فأخذتُ أغلبه عنها سحراً به وافتتاناً، لم تسعف ضعف موجة (AM) بسماعٍ جيّد، ولم يكن التسجيل احتمالاً لأسباب يطول شرحها، فأُخِذ ما أُخذ وضاع ما ضاع من الذاكرة.
بعد هذا بربع قرنٍ سمعتُ اللحن ثانيةً على الهاتف حيث افتُتِن بصوت السيّدة كرامة صاحب الذوق السليم في النغم “عماد حشيشو” فأراد إسماعي هذا الصوت، فقصصتُ له على الهاتف قصّة سماعي هذا اللحن في الطفولة، أمّا رحلة البحث الجدّيّة عنه، فبدأت منذ بداية الحرب العالميّة الثالثة المعروفة بوباء كوڤيد ١٩،.
غريب الأمر أنّي لم أنتبه لوجود نسختين منه في مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة، وكأنّ القدر يريد إعطائي درساً في الاغترار بالنفس، وكأنّ هذا الدرس مصحوبٌ برغبةٍ قدريّةٍ في كشف هذا اللحن في وقتٍ مقدورٍ يعاد أداءه فيه، وكان كشف هذا على يد الكاتب “مالك مصطفى” الذي عاين لائحة أشرطة مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة المنشورة على الإنترنت.
استخرجتُ النسختين المكتشفتين من مقتنيات المؤسّسة، أولاهما بصوت “محمود شكوكو” في إحدى حفلات الباخرة سودان صيف ١٩٥٦ والأخرى بصوت شفيق جلال حيث غنّاها في جلسةٍ خاصّةٍ في معهد الموسيقى العربيّة مايو ١٩٦٧.
كان هذا الكشف أواخر فبراير ٢٠٢١، ومن فرط سحر الناس بها، سُجِّلَت دون قصدٍ مع مجموعةٍ من الإخوة والأصدقاء الموسيقيّين المجتمعين في بيتٍ حيث فُتِن الجميع بها، فخرجت بهذه الصورة دون تمرين.
بعد التسجيل بأكثر من شهر، أرسلت لي حضرة الفاضلة “ناهد نجّار” نفس الندوة التي سمعتها سنة ١٩٩١ عبر أثير بيبيسي ثمّ في برنامجها على نفس الإذاعة سنة ٢٠١٦، وكان كشافان آخران، أوّلهما أنّي كما توقّعتُ لم أسجّل اللحن كاملاً حيث نقصت مقدّمته التي ضاع من رأسي أغلب كلامها، ولم يغنّها شكوكو ولا شفيق، وثانيهما مصدر الاختلاط في نَسَبِ كلام اللحن، فيأتي في الندوة أنّ الكلام لبيرم التونسي، وحتّى لا نظلم القوم، قيل (أظنّ بيرم) دلالةً على عدم التأكيد، بينما الموجود في وثائق الإذاعة وبصوت المذيعة التي تقدّم لمحمود شكوكو في حياة بيرم وزكريّا أنّ الكلام ل“محمود فهمي إبراهيم“
إلى نصّ الكلام:
البحر نائم، لم يغنّها محمود شكوكو في تسجيل الباخرة سودان 1955 كاملة، ولم تغنّها كرامة زكريّا أحمد في ندوة بيبيسي ١٩٦٦ كاملةً، بل وقفت حيث وقف محمود شكوكو لكن بدأت اللحن بمقدّمةٍ ليست في تسجيل شكوكو، حتّى شفيق جلال لم يغنّها كاملةً في تسجيل معهد الموسيقى العربيّة مايو 1967!
تبدو سائر التسجيلات مكتملةً من حيث إرادة المؤدّي، خلا تسجيل كرامة الذي يبدو أن أُشير لها بالتوقّف عن الغناء لضيق الوقت بل قاطعها الحضور بأصواتهم آخر التسجيل وحاولوا مقاطعتها في منتصفه، والحاصل أنّ سائر التسجيلات ناقصةً من حيث أنّ اللحن مجتزأ في جميعها، كلّ تسجيلٍ به من اللحن والكلام ما ليس بالآخر.
جمعتُ الكلام من التسجيلات الثلاثة، وضعتُ المختلف بينها بين الأقواس، مبدياً تسجيل كرامة زكريّا ثمّ شفيق جلال لوضوح الكلام فيهما، شكوكو يغنّيه بهلوسة الإضحاك، يتوه الكلام بين صخب الناس أحياناً، كرامة تغنّيه بفرحة البنت بأبيها دون أيّ مصاحبةٍ آليّةٍ وتسجيلٍ نقيٍّ ووضوح لفظٍ لا يُلتبس في حرفٍ منه، شفيق يغنّيه بهلوسة اللوعة والحزن، بل والترقّب، بطءٌ شديدٌ في الأداء، كلّ حرفٍ من الكلام يأخذ حقّه.
لحن “البحر نايم“:
شعر محمود فهمي إبراهيم:
لحن زكريّا أحمد:
نغم راست ضرب واحدة رباعيّة
استهلال:
يا مهوّن هوّنها يا هادي
يا هادي يا هادي يا هادي
يا كريم يالله استفتاحنا هادي يا هادي
يا مصبّحها ومربّحها افرجها علينا وبحبحها
وقل للشبكة يا شبكة اصتادي
يا هادي يا هادي يا هادي
دور:
البحر نايم والله لاخذ قطّة
واطرح شبكْتي عليه واقول لُهْ اتغطّى
يالّي السمك جوّاك بيلعب لطّة
خانة سيكاه:
نايم وعالشطّين يرعاك
في غفلتك يا حبيبي ملاك
يا شبه من أهوى
الفتنة نايمة يا بحر معاك
اطغطّى يالّي شبكني هواك
أحسَن ماتِسْتَهوا
لأ وانا غيّار
ولو إنّي صغار
وقديم “قديم” في الكار
كار الشبكبك شبكك لَبْس الشبك بك شبكك
قَلْع الشبكبك شبكك
قلبي انشبك بك يا اسمك إيه
وليل نهار طيفك باحلم بُه
سِرّك معايَ يابو جلمبُه
العب يا دُقدُق حطّة
يا بطّة يا ذقن القطّة
دور:
بسبوسة يا بسَبْسَبْ
شمّوسة مين يكسب
بسبوسة شمّوسة
وصل، ترنّم:
ونزلت من عالشطّ أصتاد بطّ وانا عايم
على شان غزالي الزين رباية عزّ ونَعايِم
ليلي يا عين يالاللِّي وآه!
خانة بيّاتي شوري:
جوّى الشبك وشبكني هواك
غمز رمز خذ قلبي ألزّ
الله الله الله الله
ختام راست شرقي (سزنك):
صيد العصاري يا سمك يا بِنّي
طول عمري باصتاد يقابلني
سمك بيرقص ويغنّي
ذيله محنّي
تِكْنِي كَلَرْ (Technicolour) زاين “داخله الكرم زايد” بالله
الله الله الله الله.
كيف غنّى الشيخ زكريّا هذا اللحن يا ترى؟
ذكرت مصادر كثيرة مثل الشاعر أحمد فؤاد نجم وعازف الكمان عبد السلام أرسلان أنّ هذا اللحن والأوّلة في الغرام وضعا في جلسةٍ بين الشيخ زكريّا وأصدقائه المقرّبين حيث عزّوه عزاء الأصدقاء في فقد ابنه، وُضع معه الأوّلة في الغرام، فيبدو أنّ الشاعرين الحاضرين أدلى كلّ واحدٍ منهما بما جادت عليه قرينته، خرجت الأوّلة في الغرام بصوت أمّ كلثوم خير معبّرٍ عن هذه الحال، لكن البحر نايم خرج مختلفاً تماماً:
غنّى محمود شكوكو اللحن في حياة الشيخ زكريّا، خرج اللحن مع شكوكو في هيئةٍ مضحكةٍ صياغتها الموسيقيّة أقرب للطقطوقة، (هذه الصياغة المضحكة في هيئة الطقطوقة معروفةٌ خطأً عند النقّاد ب“المونولوج الفكاهي” أو “المونولوج” فقط،) شكوكو بأدائه المبهج، الحزين في آن! غريب!
ابنة الشيخ لا تغنّيه طقطوقة، حتّى إن بدا الأداء قريباً على شكل الطقطوقة، أمّا شفيق جلال فيتّخذ بين الأدائين سبيلاً فيبتعد بأدائه تماماً عن الطقطوقة مقترباً من الدور بالترنّم والمجاوبة.
يُجمع اللحن، يُلملم شتاته من التسجيلات الموجودة فتتّحد في الذاكرة، الجمعيّة يخرج لحنٌ نموذجيٌّ غير مُرضٍ، أغنّيه على كلَبْهوس تدرّباً وأخذاً للآراء.
كانت غرفةً في محبّة الشيخين: سيّد درويش وزكريّا أحمد، وددتُ لو لم تكن غرفةً افتراضيّةً، بل ندوةً حقيقيّةً تتحاور الأرواح فيها قبل الألسن.
كان هذا رأي “وليد علاء الدين، كاتبٌ روائيّ، مدير تحرير مجلّة التراث الظبيانيّة، وقد شارك في رحلة البحث” حين سمع اللحن، “إنّك تردّ للّحن روحه“!
يا إلهي! أأفعل هذا فعلاً؟ لو صحّ فما غنّيتُ على العود ليست إلّا صيغةً نموذجيّةً ليست إلّا تجميعاً للصيغ المختلفة الناقصة لافتراض صورةً مكتملةً للحنٍ حاول أن يكون غطاءً للبحر النائم فغاص فيه.
كيف غنّاه الشيخ زكريّا؟ لماذا لم يسجّله، أو حتّى لا نفترض يقيناً، نقول: غير موجود: لماذا لم يصلنا أيّ تسجيلٍ بصوته لهذا اللحن ولا ل“الأوّلة في الغرام“؟
ما زلتُ قيد تنفيذ حلقاتٍ تذاع على صفحة مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة بمناسبة ذكرى ستّين سنةً على رحيل الشيخ زكريّا، تركتُ كلّ عملٍ لي لإنجاز هذه الحلقات، على مدار أربعة أعوامٍ أنجزتُ لصالح المؤسّسة أكثر من مئتي حلقةً، ثمّ وقفت البرامج لأسبابٍ تمويليّةٍ، ورغم علمي انقطاع البرنامج بإنهاء الحلقات عن الشيخ زكريّا في ذكراه، أعمل فيها بشغفٍ يشابه شغفاً منذ عقدٍ حين كان مشروع هذه الحلقات “سمع، من التاريخ، نظامنا الموسيقيّ، دروب النغم” التي جُمِعَتْ تحت اسمٍ موحّدٍ لمجلّةٍ موسيقيّةٍ قديمة “روضة البلابل“
منذ عقدٍ كان حلماً أن يكون برنامجاً دوريّاً، تركتُ التعليم الأكاديميّ وألغيتُ أغلب المشاريع حماساً لهذه الفكرة التي طرحها الأستاذ كمال قصّار، (مؤسّس ورئيس مجلس إدارة مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة).
شغفٌ كأنّ الفكرة ما زالت فكرة، كأنّ العمل لم ينتظم أربعة أعوامٍ ثمّ انقطع بانقطاع تمويله.
شغفٌ رغم ذاتيّة تمويل هذه الحلقات عن الشيخ زكريّا من قبل المؤسّسة ما أضعف أغلب الإمكانات لتنفيذها.
لكن، لولا هذا الشغف ما أقبلتُ على سماع مئات الساعات للشيخ زكريّا سماع تدقيقٍ موسيقيٍّ بحثيّ، وسماع تدقيقٍ صوتيٍّ لغرض الضبط والتنقية.
بهذه الطريقة يغنّي الشيخ زكريّا ألحانه اختصاراً في الأسطوانة لضيق وقتها.
بطريقةٍ أخرى يغنّي الشيخ ألحانه للإذاعة فيسترسل غير مبالٍ بالفرقة الموسيقيّة التي تريد تنفيذ اللحن على عجلٍ دون كثرة تدرّب.
بهذا الحماس يغنّي الشيخ زكريّا في الحفلات العامّة لجمهورٍ ذهب لسماعه في قاعة العرض بمعهد الموسيقى العربيّة مع مجموعة عزفٍ تُدرك أنّها تزداد شرفاً أن يكون معهم الشيخ زكريّا.
بهذا الرواق يغنّي الشيخ زكريّا على عوده في بيته أو مع مجموعة أصدقاءٍ له موسيقيّين بحضرة هذا الصديق أو ذاك المنشد!
كيف سيغنّي الشيخ زكريّا “البحر نايم: في جلسةٍ بها شاعران وبعض رفقةٍ من أهل النغم؟
له عشرات التسجيلات في صحبةٍ مماثلة!
يتذبذب الرأس بين الاستنباط البحثيّ وخيال العودة بالزمن.
بالمناسبة: أليس الاستنباط البحثيّ شيءٌ من الخيال؟ هل كلّ الخيال عيبٌ أو بعيدٌ عن الواقع؟
ينقطع العمل على الحلقات أسبوعاً، بل ينقطع التواصل مع الناس إلّا في ضرورة، تجتمع صحبة النغم فتكون جلسةً كأنّها تلك لكن اختلفت الأسماء واختلف ظرفي الزمان والمكان:
الجبل المقدّس، ٩ إپريل “نيسان” ٢٠٢١:
مصطفى سعيد: عود وغناء وتفريد.
محمّد عنتر: ناي.
شادي إبراهيم: عود قرار وبطانة.
جوزيف رومان: كمان متوسّط ڤيولا.
محمّد مصطفى: كمان صغير ڤيولين.
سراج عصام: قانون وبطانة.
عبد المجيد سامي: إيقاع وغناء.