You are here:   Home  /  غير مصنف  /  قدّه الميّاس

قدّه الميّاس

مذهب

قدّه الميّاس زوّد وجدي / بشرب الكاس قضّيت عمري

ده حبّه كاس وسبب وعدي / طول ليلي سهران ارحم قلبي

دور

بُعدك عن عيني أجرى دمعي / حبّك ده منين أصله قلبي

الدور كـ One Man Show

بقدر ما اكتفى الشيخ محمد الدرويش ببذل الحد الأدنى من جهده في تأليف كلمات هذا الدور، بقدر ما تفنن محمد عثمان في وضع لحن مفعم بالأفكار والاحتمالات، لا يخرج عن سلم البياتي أللهم للتعرج بمشتقاته من بياتي شوري وبياتي حسيني/طاهر وبياتي على محير. وبما أن المادة النصية محدودة للغاية، فرأى أن يتالعب بالفواصل بين الكلمات (أجرى دمعي حبك، أصله قلبي بعدك، ألخ)، حتي تتكون أشباه جمل لا معنى لها تصبح مجرد مادة صوتية تتوزّع على وقع دموم وتكات الوزن، وتتغذي الشعور بهَوَس واختلال عقل العاشق الولهان الذي لا يبرح يردد ويكرر نفس الكلمات الفاقدة للمعنى، ملبساً إياها شتى ألوان الطيف المقامي.

هذا التسجيل من أروع ما أنتجته مدرسة الموسيقى المصرية «الفصحى» في أول القرن العشرين، حيث التقت عبقرية سلامة حجازي بتخت محمد العقاد وإبراهيم سهلون، الذي عرّف على أعضائه مصطفى سعيد في مستهل هذه المنشورة، وبالذات الرقاق الماهر الذي حرص الشيخ سلامة على وضعه إلى جانبه مباشرةً. فشتان بين صيغة عبد الحي حلمي (CD3) وصيغة سلامة حجازي (CD1)، وإن كانت الأولى لا تكاد تقل روعة عن الثانية، إلا أنها تقدم المعتاد من أداء الدور في عصر النهضة، مع مطرب متمكن من فنه يفرض شخصيته وخياله على القطعة. أما حجازي، فهو في آن واحد مطرب ومنشد ذكر، يُدخل عُرف «التفقير» (أي رقص أهل الذكر عند الموالد الصوفية) في أداء الدور ويحوّل هذا القالب الرصين إلى حفلة رقص تتأرجح بين الاهتزاز المرح وشطحات الطائر المذبوح يرقص من الألم، على قول البيت المشهور الذي يغنيه الشيخ يوسف المنيلاوي.

بما أن مطربي الصفّ الأول كانوا قد أخذوا سنة ١٩٠٨ على متطلبات التسجيل التجاري وما يقتضيه من تحضير خطاب نغمي متماسك ومتناسق لكل وجه من وجوه الاسطوانتين (في الأدوار الطويلة) فالشيخ سلامة نظم أداءه بشكل واضح موزعا أفكاره على الأجزاء الأربعة وكأنها فصول أحد مسرحياته : المذهب ثم ترجمته الآلية ثم الشطر الأول من الدور على نفس نغمة المذهب، كما تجري العادة. في الوجه الثاني، يلتزم الشيخ سلامة بلحن محمد عثمان ويؤدي سلسلة إعادات «عن عيني بعدك» مع وقفة على كل درجة من درجات فرع المقام، ثم تأتي جملة «أجرى دمعي» لتعطيه مساحة ملائمة لإبراز قدراته إذ يكثر من العفق (اختناق الصوت المقصود المحكم) والآهات المطربة وغُنّة الميم البديعة في لفظة «دمعي» (٤:٢٤). ويختار اللحظات الأخيرة من الوجه لتمهيد الطريق للقسم البياتي على محير الذي يحتل جل الوجه الثالث، ولكن بإشارة خاطفة تشوق المستمع إلى المزيد في كلمة «حبّك» (٥:٤٠). الوجه الوابع مخصص لإبراز الدرجات العالية من اللحن، تارة في لون الراست (على الكردان) أو البياتي (على المحيّر). الجملة بين ٧:١٠>٧:٥٠ خير مثال لبراعة حجازي ولمبادئه الجمالية : آهات منتظمة حول ضربة الوحدة المتوسطة، يرسل فيها الشيخ صوته إلى أقصاه، حتى يخيّل إليك أن البحّة ستنقلب شرخة لكن هيهات، تمر النوتات سليمة لا نشاز فيها، ثم «حبك ده منين أصله قلبي بعدك عن عيني أجرى دمعي»، هذا الترتيب الغريب للنص الذي يذكر بما كانت تفعله منيرة المهدية بنص «أسمر ملك روحي» حيث كان التقطيع يحول لفظة «تعالى» إلى «عالتا»… الجملة النغمية تتبع الفكرة المعروضة في الآهات، إبراز البياتي على محيّر، على حدود مساحة صوته، عفق أنيق عند كلمة «عيني» ثم نزول موقع راقص على سلم الباتي الشوري عند القفلة التي يؤكدها قانون العقاد.

أما الوجه / الفصل الأخير، فمهرجان من نوع آخر. فإضافةً إلى المعالجة الإيقاعية للقطعة، ما يلفت الانتباه ويثير العجب هو تعامل الشيخ مع بطانته من المذهبجية، إذ يبتعد سلامة حجازي عن تقليد الـ«هنك» القائم على السؤال والجواب، حيث يرد أحد الطرفين على سؤال نغمي، بشكل «سادة» من قِبل البطانة ومتنوع مزخرف من قِبل المطرب. أما حجازي في الوجه الرابع من التسجيل فيطلب منهم أن يغنوا جملة لحنية بشكل متصل بينما يغني هو أجزاء أخرى من هذا البيت اليتيم. إنه نموذجفريد من نوعه لـ«هيتيروفونيا منظمة» ليست بنت اللحظة وصدفة اختيارات الآلاتية في أدائهم لفكرة نغمية واحدة، بل تطبيق آخر لفن الإنشاد الديني على الدور. أما الفكرة الموسيقية المبدعة الثانية في هذا الوجه، هو تغيير السلم المفاجئ في فرع المقام من بياتي إلى شوري (chromatism) عند ١١:٠٠ على كلمة «ده منين»، حتى القفلة الخاتمة التي تليها مباشرة ليالي على إيقاع البمب (الرنان جدا كعادة الرقاق والشيخ) والتي تلخص المسيرة اللحنية للقطعة، من بياتي محير إلى القفلة الشوري، ويخال السامع أن الشيخ لم يصمت لحظة منذ بداية الدور، يدور حول نفسه في الغناء كما يلف دراويش المولوية حول قطبهم الروحاني…

  2017  /  غير مصنف, وثائق, وثائق المنتجات  /  Last Updated مارس 17, 2018 by Amar  / 
WP-Backgrounds Lite by InoPlugs Web Design and Juwelier Schönmann 1010 Wien