مقال بقلم فادي العبد الله في ذكرى 15 عاما على رحيل
ضوء على صليبا القطريب في ذكراه الخامسة عشرة
القدير المغيَّب والمحيِّر
من المحزن ان تمر ذكرى احد اهم الفنانين المطربين العازفين الذين انجبهم لبنان وهو غريب ومجهول في وطنه. اذا اعتمدنا “غوغل” مقياساً، فإننا لا نجد أثراً لصليبا القطريب، باستثناء ذكره في منتديات موسيقية متخصصة، إلا بوصفه والد المطربة سلوى القطريب، التي رحلت في مطلع آذار الماضي، رغم ان انتاجها، على رقته، لا يداني ابداعه البتة. أما تسجيلاته، خارج هذه المنتديات عينها، وقبل عهد الانترنت، فكانت مفقودة وغائبة من التداول حتى في أوساط الموسيقيين وطلبة عزف العود في المعاهد حتى في مسقطه، طرابلس ومينائها تحديداً، رغم اشتهار اسمه بين معمّريها وكهولها.
يثير ذلك في النفس شعوراً، من جهة، بالأسى البليغ على مصير هذا الفنان الكبير حقاً الذي غاب عنا قبل خمسة عشر عاماً، وكان تجاوز التسعين من السنين، فيما تستفزنا من جهة أخرى اعادة مساءلة تاريخنا الموسيقي والظلال التي ألقيت على بعض أنحائه ومعانيها ومقاصدها وعلاقتها ببناء الهوية اللبنانية التي تشكل الموسيقى احد اهم اركانها.
صليبا القطريب مطرب قدير وعازف عود نابغ ومتفرد، ولد عام 1904 لأب، هو مخايل القطريب، كان عازف ايقاع بدوره. تميز في مجال الغناء النهضوي المصري تحديداً، من أدوار وموشحات وقصائد، فضلاً عن المواويل، كما ألمّ بالمادة الموسيقية البحتة من بشارف وسماعيات ولونغات، مما كان زاد العازفين آنذاك والمنبع الأول لإلهامهم الارتجالي في التقاسيم والسلطنات. ملامح عزفية متفردة لم تصلنا “مؤلفات موسيقية” كما لم تصلنا اسطوانات كثيرة لصليبا القطريب، وما في حوزتنا اليوم معظمه من جلسات خاصة وبعضه من حفلات عزف فيها وغنّى بمصاحبة فرقة موسيقية. تمتد هذه التسجيلات على مراحل طويلة من حياة الفنان، بحيث يسعنا عبرها ملاحظة دخول ملامح جديدة على عزفه وعلى غنائه، في شيخوخته المتأخرة، ولا يعود ذلك إلى عوامل السن فحسب، رغم انه حافظ على لياقته العزفية وطلاوة صوته وليونته حتى عمر متقدم، بل أيضاً إلى تأثير التحول الغنائي الطاغي لغناء الخمسينات والستينات، في مصر ولبنان، والذي كان طاول حتى أم كلثوم في السنين العشر الأخيرة من عمرها.
من الملامح المميزة لفن القطريب وعزفه، امتلاكه أسرار “الريشة المقلوبة”، أي الصاعدة والهابطة، المتواصلة مع حس ايقاعي شديد الصلابة، ربما ورثه عن والده، يسمح له بالزخرفة عبر ملء كل المساحات الزمنية الممكنة بضربات حازمة وجمل سريعة ومرتجلة تبتعد أحياناً عن الجملة الأصلية بشكل مذهل قبل ان تعود لتلقي بها عند مهبط الايقاع بوضوح بالغ، كما في تسجيله لسماعي بياتي ابرهيم العريان مع ولده فؤاد على الكمان في عام 1964، على ما يروي هذا الأخير. غير ان هذه الريشة المقلوبة غير مأخوذة عن المدرسة العراقية التي أسسها الشريف محيي الدين حيدر والتي لم يتأثر بها القطريب بل كان سابقاً عليها، اذ يشير الباحث حسقيل قوجمان ان بغداد عرفت عهداً، في أواخر الثلاثينات على ما نرجح حيث ولد فؤاد ابن صليبا القطريب في بغداد عام 1940، لم يكن فيه من عازف عود غير يهودي سوى صليبا القطريب، الذي كان يصاحب مطربة العراق الأشهر سليمة باشا مراد، مما يدل بوضوح على ان القطريب كان سابقاً على تأسيس الشريف لمدرسته العراقية وانتشارها. أما تأثير المرحلة التركية للشريف حيدر على القطريب فلا يلوح أكيداً، إذ ان هذا الاخير اقرب في روحية عزفه إلى أسلوب العازف الشهير يورغو باغانوس مع تأثيرات بلقانية أحيانا وليس إلى مقطوعات الشريف محيي الدين حيدر التصويرية. اما “الفرداش” أو “الرش” الذي يستعمله القطريب أحياناً بمهارة ايقاعية وأحياناً للتنويع على الجملة، ولا سيما مع استخدام جواب العود الحاد، فغائب على ما نعلم عن أسلوب الشريف.
في الوقت عينه، ينفرد القطريب، رغم ايقاعية ريشته، عن الأسلوب المصري في العزف كما أرساه عازفو عهد النهضة وطوّره القصبجي ووضع السنباطي عليه بصمته المطربة البالغة السلاسة والعذوبة. فالقطريب يبتعد عن استخدام وتر قرار الراست استخداماً ايقاعياً، كما هي الحال في المدرسة المصرية التقليدية، إلا ما ندر، كما ان زخرفاته على الجمل الملحنة ليست تطريبية بل زخرفية ارتجالية تسعى إلى بناء جمل جديدة بالتلاعب مع الايقاع والضربات السريعة وليس على اخراج الجملة الملحّنة ذاتها بنكهة تطريبية أعلى ناتجة من التلاعب الدقيق بأبعاد النغمات أو من التمهل السنباطي مثلاً. وربما كان صوت عود القصبجي الأكثر شبهاً بصوت عود القطريب الذي صنعه له الصانع العراقي الأشهر محمد فاضل العواد. وذلك يعود على الأرجح لا إلى الصناعة بل إلى اسلوب الضرب القوي بالريشة القوية، التي تميز بها ايضاً العازف المصري جورج ميشال. فيتشابه القطريب والقصبجي المعلّم الذي وصف بـ”الزخمجي” نسبة إلى “الزخمة” وهي الريشة القاسية المصنوعة من الخشب، في اصدار صوت العود من أوتار مشدودة بقوة تخفف من تماوج صوت العود لصالح وضوح كل ضربة وكل نوتة. غير ان هذا التشابه ليس تاماً، فلا يلجأ القطريب إلى منحى تعبيري او تجريبي في عزفه، وفي الأخص لا يكاد يلجأ البتة إلى أي همس بالريشة أو بالأصابع. كما لا تستهويه تقنية “البصم”، أي اصدار اكثر من نغمة بضربة ريشة يتيمة اعتماداً على امتداد الصوت وتعديله بالعفق بالأصابع، وهذا ما نشهده غالباً أيضاً لدى العازفين اللبنانيين على تنوع مشاربهم بحيث يكون لكل نوتة تقريباً مرادفها من ضربات الريشة.
فالملامح الأساسية لعزف القطريب على العود تتشكل من قوة الريشة وحيوية ايقاعية ضرباتها وغياب كلٍّ من البصم ومن الاستعمال الايقاعي للقرار. في مقابل ذلك، هنالك سيطرة على الريشة المقلوبة، ومقدرة في ارتجال جمل سريعة والتعامل بحرية كبيرة مع الجمل الملحنة والموروثة مع احترام الايقاع بانضباط هائل، فضلاً عن استغلال مساحة زند العود بما فيها الدخول إلى الجوابات الحادة واستخدام تقنية “الانزلاق”، فضلاً عن استدخال الصمت في مواضع غير متوقعة، والتلاعب بالسؤال والجواب ما بين الحاد والخفيض. أما على الصعيد النغمي، فلا تخلو جعبة القطريب من مفاجآت، حتى وإن اكتفى احياناً بإشباع المقامات وابراز طابعها ونكهة أبعادها وتسلسلها المعهود الاستساغة، إلا انه أحياناً يبتكر دروبه، كالانتقال إلى الصبا على رابعة البياتي بدلاً من الانتقال إليه من درجة الركوز، اي الدرجة الأولى من السلّم، كما هي العادة.
الغناء ومصاحبة النفس تخصص القطريب في الغناء المصري، بدليل غياب اي تسجيل لدينا لأدائه اغنيات عراقية، رغم اقامته في بغداد، أو لبنانية او حتى شامية، ربما باستثناء “أنا في سكرين” التي ادّاها بإبداع متفوق، مصاحباً نفسه على العود كما دوماً. غير ان ذلك لم يمنعه من امتلاك فرادة واضحة، في الغناء كما في العزف، وملامح شامية بارزة، سواء في التعامل الأكثر ايقاعية وسرعة في الأدوار المصرية، أم في بعض التصرفات الصوتية والزخارف ذات الطابع الجبلي أحياناً، كما في تسجيله لـ”أنا في سكرين” في أواسط العقد السادس من القرن الماضي. صوت القطريب، ولا سيما قبل شيخوخته المتأخرة، قويّ رجوليّ طليّ ليّن، غنيّ بالمقامات والزخارف، ومتغيّر القماشة واسلوب الانتاج على طراز اداء المشايخ، وهو يملك في الغناء أيضاً ذلك الحس الايقاعي المعجز، مما يدنيه، في الملمَحَيْن، من مدرسة الشيخ زكريا أحمد، مثالاً لا حصراً. وهو عوّض تلك القوة، في تسجيلاته المتأخرة، بالخبرة والحس الايقاعي وسلطنة المزاج الباعث على الطرب الذي لا يُرَدّ.
يعدّ القطريب من القلائل يؤدون مصاحبة موسيقية فعلية لغنائهم مع العود، ولا يكتفون باحتضانه، ومن هؤلاء السنباطي وكارم محمود وبكري الكردي، وهو يتفوق على هؤلاء عزفاً، باستثناء السنباطي الذي لا يدانيه احد منهم مقدرة، بالنظر مثلاً إلى المروحة الواسعة من القفلات وانماط الريشة وعذوبة الجمل التي يؤديها في مقام واحد، ولا ينتقص ذلك البتة من رشاقة عزف كارم محمود أو من مخيلة بكري الكردي اللحنية، الغريبة والفريدة. غير ان القطريب هو الوحيد بينهم، لم يصلنا انه لحّن اغنية أو ألّف مقطوعات موسيقية، فخياله اللحني خيال عازف، أي انه اقصر باعاً في ابتكار الجمل غير انه اشدّ تركيزاً في ابراز تقنيات العزف وقدرات الآلة، فضلاً عن جرأته الهائلة في الخروج عن الجملة الأساسية وقدرته على الانضباط الايقاعي الصارم رغم ذلك. بل إن تكامل حنجرة القطريب وأصابعه يبلغ الحد الذي يجعله لا يفرّق ما بينهما، فيترك أحياناً لأصابعه استكمال قفلة الغناء، بحسب الملاحظة النفاذة والدقيقة للأستاذ نجيب ديمتري كوتيا.
أسئلة لا تجد أجوبة تتركنا ميزات عزف القطريب وغنائه أمام عدد كبير من الأسئلة التي ينبغي التنقيب عن أجوبة لها. فنحن نجهل على سبيل المثال على من تتلمذ هذا العازف الفذ. ولئن كان في عزفه، الممثل خير تمثيل لمدرسة شامية مستقلة في العزف على العود، ملامح من يورغو باغانوس وعازفين “أتراك” متعددي الأعراق والمشارب البلقانية واليونانية والأرمنية وغيرها، فإن هذه الملامح لا تطغى على العزف، كما انها تغيب تماماً في الغناء. فحتى لو كان القطريب قد اقتبس بعض تقنياته من اسطوانات العازفين المسجلة في تركيا، فإنه، على ما نعلم، لم يؤدّ أيّ اغنية تركية بصوته. في المقابل، كان القطريب بصوته مصرياً شبه خالص، في حين انه في العزف، كما أوضحنا، ابتعد عن اجيال العازفين المصريين المعاصرين واللاحقين للقصبجي. فكيف تأتّى للقطريب امتلاك هذه التقاطعات المتفاوتة الاتجاه مع امتلاك انقطاعات وفرادات خاصة به وبالعزف في بلاد الشام؟ ثم إن اقامة القطريب في بغداد لم تترك على ما يبدو ايّ أثر في عزفه ولا في غنائه، فلم نستمع إلى ايّ تسجيل له يتناول فيه أبعاد النغمات العراقية المميزة، أو يؤدي شذرات من المقام العراقي، أو حتى من الأغاني العراقية الخفيفة. وفي هذا إشارة قوية إلى ان حضور القطريب في العراق إنما كان، من ضمن حضور عازفين آخرين غير عراقيين، تلبية لانفتاح المجتمع البغدادي والعراقي آنذاك على أنماط موسيقية غير تقليدية، في ظل تغيّر المجتمع والاقتصاد، فضلاً عن انشاء أمكنة جديدة للاستماع إلى الموسيقى. فكأنما اتى هؤلاء لمصاحبة العراقيين على دروب جديدة، لا للتشرب من نهر موسيقاهم العظيمة. غير ان القطريب كان يصاحب المطربة العراقية الشهيرة سليمة باشا مراد، فكيف لم يحفظ لنا على الأقل بعض البستات أو الأنغام الخاصة بالعراق؟ يطالنا أيضاً التساؤل عن سبب عزوف القطريب عن التأليف لآلته أو التلحين للغناء، وربما كان هذا من طبع عازفي العود، من غير الملحنين آنذاك، ألاّ يتنطحوا إلى ادعاء القدرات التأليفية كما هي حال غالبية عازفي اليوم. فخارج العراق، لم يكن العواد عازف صولو أو عازفاً منفرداً يحيي الحفلات بعوده، ولم تكن به حاجة لادعاء القدرة على التأليف الموسيقي البحت لإثبات حضوره أو ملء مساحة حفلاته. فحتى السنباطي العظيم لم تصلنا من تآليفه الموسيقية البحتة سوى اثنتين، وثلاث للقصبجي، وان كان هذان قد وضعا مقدمات موسيقية لألحانهما الغنائية. ليست حالة القطريب، في انفتاح آفاقه وانتقائيتها ما بين مصر والعراق وتركيا (التي بدأت مسيرة عودتها إلى المشرق باستعادة نفوذ موسيقي قوي قبل اعوام عدة سابقة على عودة تأثيرها السياسي حالياً)، وحدها المحيّرة لنا. إذ يمكن ان نقارن تقاطع مؤثراته الموسيقية وخصوصيته، بحالة محيي الدين بعيون، المطرب البيروتي الشهير، الذي كان أيضاً متخصصاً في الغناء النهضوي المصري، إلا انه كان ضارباً بالطنبور وهو آلة تركية شبيهة بالبزق، وقد أخذ من هذا الجانب العزفي بعض الزخرفات الصوتية التي أدنته أكثر من عالم الموسيقى التركية. في المقابل، نجد العازف والملحن اللبناني فريد غصن، الذي أقام طويلاً في مصر، ويعتبره البعض أحد أساتذة فريد الأطرش، فضلاً عن تلحينه أغنية يتيمة لأم كلثوم، والذي يمكن مقارنة قوة ريشته بالقطريب، إلا ان فريد غصن وضع بعض المؤلفات ايضاً، بنفس تصويري أوضح تأثراً بالشريف محيي الدين حيدر وبالموسيقى الاوروبية، كمقطوعة “العاصفة” التي يبدو تأثيرها جلياً جداً في مقطوعة “العامرية” لنصير شمة، كما ان تقاسيم فريد غصن تدل على تمكنه من عدد كبير من اساليب العزف، فهو قد يعزف بأسلوب مصري أو تركي خالص، إلا انه لم يتوصل إلى دمج مجموعة هذه الاساليب في صيغة فريدة تميزه. نهج فريد غصن في العزف، تكرس في المعهد الموسيقي اللبناني إلى حين اعتماد منهج شربل روحانا المختلف تماماً. هذا قد يجعلنا نظن ان ريشة القطريب وغصن، وجدت ورثة لهما في اكناف المعهد، إلا ان ذلك غير اكيد، في النظر إلى اختلافهما في الاسلوب من جهة، وغياب الاعتراف الرسمي في المعهد بالقطريب كأحد أبرز المعلمين في المدرسة الشامية. لذا قد يكون تأثير القطريب الأساسي انحصر لفترة طويلة في عدد من العازفين غير المحترفين في مدينة طرابلس حيث اقتبسوا منه في الجلسات الخاصة قدر استطاعتهم وجهدهم، ولم يبرز منهم احد يدانيه مقدرة.
نتساءل طويلاً لماذا تم تغييب هؤلاء الفنانين القديرين والمطربين الكبار في لبنان، وبقدرة من، مثلما تحولت المطربة العظيمة نور الهدى، اثر عودتها من مصر في الخمسينات، مطربة مناسبات تستعيد أحياناً “يا جارة الوادي” إلى ان يبتلعها ظل النسيان. قد يميل المرء إلى تحميل مشروع الاخوين رحباني ونفوذهما، المسؤولية عن طمس العناصر اللبنانية السابقة عليهما، إلا ان ذاك قد يكون فيه بعض تجنٍّ عليهما. فالارجح ان انتشار هذا المشروع وسطوته، انما نتج من رغبة اجتماعية لبنانية – شامية، صاحبت نشوء دولتي لبنان وسوريا واستقلالهما، في الانفصال موسيقياً عن المدارس الأخرى وتأسيس نمط خاص وهوية مستقلة، فكان ان اعتمدت بدرجة كبيرة على التوزيع الموسيقي وعلى الرشاقة والرومنطيقية في بناء الجملة، وهذا ما لم يكن من العناصر الأساسية التقليدية في المدارس الأخرى، وإن كان على اتصال بذائقة محمد عبد الوهاب الذي كان له حضور بالغ في الأوساط اللبنانية الموسيقية. في صياغة أخرى، تطرح علينا سيرة القطريب وبعيون وغصن وغيرهم، وغياب السيرة و”الحكاية” الفردية احد ملامح هذه السير المشتركة، سؤالاً أخيراً ربما: هل كان طمس هؤلاء في لبنان نتيجة الرغبة اللبنانية في التمايز، فكانوا ثمن بناء الهوية الموسيقية التي نعرف؟
* جزيل الشكر إلى أسرة “منتدى زمان الوصل”، التي اتاحت الحصول على التسجيلات والصور، فضلاً عن استقبال وجوه الآراء حول هذا الفنان القدير.