خلال القرن التاسع عشر, كانت بلاد الشام تقع تحت السيطرة العثمانية, وعرفت تغييرات سياسية ,اقتصادية واجتماعية مهمة منذ حملة بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر والانفتاح على الغرب, نتج عنها نهضة فكرية, علمية, اجماعية وادبية, مما ٲثّر على الواقع الموسيقي. وبرز قطبين موسيقيين اساسيين, هما القاهرة وحلب الذين اثّرا على باقي المدن. فاتسمت مدن بلاد الشام بنفس الميراث الموسيقي المتٲثر بالموسيقى التركية والفارسية وبالتغييرات التي حصلت بالمنطقة. وعرفت الموشحات والقدود الحلبية والاغاني الشعبية (المواليا, الزجل), ومن ثم القصيدة والدور المصري, وكافة القوالب الشرقية (الدولاب, التحميلة, السماعي و البشرف). كما عرفت بلاد الشام ما يسمى التنزيلات, وهي منظومات على أسلوب الموشحات, من تلحين الناظم نفسه، او على ألحان الأغاني التي كانت شائعة في تلك الفترة. وكثرت تلك العادة للاستفادة من رواج تلك الاغاني وبالتالي سهولة حفظها. ومن خلال دواوين بعض شعراء بيروت خلال القرن التاسع عشر[1], تمكنا من معرفة اسماء بعض الموشحات والاغاني الرائجة في تلك الفترة, مثل: ناعس الطرف سباني, تلوموني ولا ترثوا لحالي, انت حسن يا سيدي يا تاجر السكر, ماس وانثنى ثملا, طابت الأوقات, يا ليلة الوصل, بهوى قمراً سهمه عيناه, يا طير طالعني لبيت الآغا, سبحان من صور حسنك, سلبت ليلى مني العقلا, يا طالعة عالجبل نقّط عسل بوزك ايه والله, يا ناس خلوني بحالي, ميلي ما مال الهوى, جوز الحمام مني مني, دور ناح الحمام القمري….[2]
و عرفت المنطقة في تلك الفترة اولى المحاولات الموسيقية التنظيرية, خصوصاً مع الاحتكاك بالغرب, فبدٲ البحث عن هوية موسيقية, ووضع تعريف لها. كتب ميخائيل مشاقة “الرسالة الشهابية في الصناعة الموسيقية” (١٨٦٦), و فيها أول تصنيف وتوصيف شامل للمقامات العربية, للنظام اللحني، وللآلات الموسيقية المعتمدة في التقليد الموسيقي الفني الخاص بالمشرق العربي. ووضع نظرية موسيقية تبيّن تقسيم الدرجة الموسيقية إلى أرباع الدرجات المتساوية. اما مقالة احمد فارس الشدياق عن الموسيقى فتجسد بداية الوعي عند متنوري العصر للحاجة الى وضع تعريف للموسيقى الشرقية, خصوصاً بوجه تلك الغربية[3]. فقد حاول الشرقيون منذ أواخر القرن التاسع عشر وضع التعاريف الموسيقية مع من جهة رغبة قوية بتقليد أوروبا كنموذج أعلى لحضارة متقدمة ثقافياً، ولكن من جهة اخرى مع الحاجة للدفاع عن هذه الموسيقى الشرقية والاعتراف بجماليتها الخاصة بها. وبالنسبة للشدياق, تتميز الموسيقى الغربية بالتدوين والهارمونيا، في حين ترتكز الموسيقية الشرقية على التنوع المقامي والايقاعي. والاختلاف الاساسي بينهما هو التأثير الموسيقي على الجمهور. فالموسيقى الأوروبية تعبر عن الصور والمفاهيم، في حين أن الشرقية متخصصة في إثارة العواطف. صحيح ان توصيفاته ذاتية غير علمية ومن وجهة نظر شرقية, الا انها تعبر عن مدى اهمية العاطفة فى المجتمع الشرقي و موسيقته, وتظهر الاهتمام المتزايد بالموسيقى لدى مفكري وادباء النهضة العربية.
من جهة اخرى, لم تكن نظرة المجتمع الشامي في مختلف المدن منفتحة على فن الغناء والموسيقى. الضغوطات الاجتماعية منعت دخول النساء عالم الغناء والتمثيل (حضوراً ومشاركةً) حتى بداية القرن العشرين, وتحديداً بعد الحرب الكبرى. لذاك عرفت بلاد الشام هجرة كبيرة للشوام الى مصر. وكانت الموسيقى تعتبر مهنة كسائر المهن الصناعات اليدوية, لكن الى حد ما متدنية المستوى الاجتماعي. ولم تعرف بلاد الشام نظام التخوت التي كانت بمثابة مدارس يتعلم فيها المنشدون أسرار وقواعد الفن, انما من المرجح ان التخوت المصرية والمدارس الصوفية الحلبية قد ٲثّرت على كافة المدن المشرقية لناحية التقاليد والتنظيم. وفي أوائل القرن الثامن عشر ظهر في حلب تخت “يوسف أنطوان الياس” الجد الأكبر لعازفي الكمان سامي وفاضل الشوا. وكان التخت مكوناً من يوسف أنطوان الياس (قانون) والياس أنطوان (كمان)، عبود الشوا (عود) وحبيب الشوا (طبلة.( اشتهر ايضاً يوسف بن فتحي العش الدمشقي في بداية القرن التاسع عشر. كما عرفت دمشق جرجي الراهبة (١٨٧٥-١٩٢٠) عازف عود وقانون في جوقة اولاد كزبر, وسلوم انجيل الدمشقي (١٨٤٥-١٩١٨). اما في بيروت فعُرف كلّ من صالح إدريس”[4] وحنا السيقلي[5]. وفي بداية القرن العشرين, ظهر اسمين موسيقيين اساسيين, هما الموسيقي والعواد شكري السودا والمطرب فيليب الشوشاني الذين كانا من اشهر موسيقي بيروت. فقد احيا العديد من الحفلات والمسرحيات. كما نعلم ان “الموسيقي البارع” شكري افندي السودا قد القى محاضرة عن الموسيقي العربية, بمشاركة عدد من الموسيقيين, منهم “المنشد الفني والبلبل العربي بولس افندي صلبان”, و”امهر مغنيين في البغدادي والمعنى والقرادي والعتابة”. ومن الآلات التي استعملت: “الكمنجة, الناي, العود, القانون, البزق, الطنبور, المنجيرة, الددك, العناز (قصب), الزمر, المسحورة, السرغاي, النقارات, الايرة, الرباب, الدربكة, الطبل و الصنوج“. واثنت لسان الحال على هذه الحفلة النادرة التي جمعت “اللذة و الاحسان”[6]. لكنها انتقدت بعد يومين صاحب الدعوة الذي لم يكتف بالبطاقات التي وُزِّعت, بل استمر بالبيع “على الباب”, فكان الحضور كثيراً نظراً لشهرة الاثنين, مما منع الاستمتاع بالحفلة .ورغم هذه الملاحظة, فقد كانت حفلة شيّقة, اذ ان السودا كان يعطي امثلة عن كافة تفسيراته للموسيقى “المعروفة قديماً وحديثاً”[7]. كما شارك السودا في وضع ٲلحان مسرحية “عروس ليالي الطرب” لشبلي ملاط التي عرضت سنة ١٩٠٣ على المرسح البيروتي زهرة سوريا, تمثيل وغناء “المطربين الاصوليين المشهوريين الحاج عبد الرحيم افندي الصفح وحليم افندي النحاس” والممثلة رحلو. كما شارك في الحفل بعد عدة ايام فيليب افندي الشوشاني[8] والجوق المصري[9]. ومن الطريف ان اعلان المسرحية يعطي بعض المعلومات عن المشاكل التي كانت تواجهها المسرحيات في تلك الفترة كالملل والضجر والحر, ويعد من يحضر بعدم الندم, “فلا يمكن لزيد مثلاً ان يقول (بلصونا) ولا لعمرو ان يتٲفف ولا لخالد ان يشكو ويتبرم” [10].
كما اشتهر في بيروت الموسيقي والمغني بولس صلبان “بلبل سوريا” مع عازف العود المرافق له سليم عوض. وكان فنان ذو طباع خاصة يرفض الغناء بحفلات الغناء الخاصة بالاغنياء. يُتّهم بانه “لئيم, مغنج و اعوج” يٲتي دائماً متٲخراً على الحفلات. من اعماله الغريبة والطريفة انه في سنة ١٩٠١ كان معزوماً الى حفل زفاف ابن جلال باشا, فطُلب منه الغناء. الا انه ٲنشد دوراً واحداً, وتوقف. رغم ٳصرار المعازيم ورجاء صاحب الدعوة, رفض الغناء وغادر الحفلة, لان الحاضرين لا يهتمون فعلاً بالموسيقى ولا يستذوقوها. لا يهمهم الا المظهر, والمٲكل والمشرب. وتوجه الى منزل صديقه حبيب سعادة المجاور للقصر ليحتفل بعرس ابن جلال باشا في منزله, “فليس لجدران بيت الباشا آذان تسمع رنات العود والأناشيد”[11]. وكان يرفض نظرة المجتمع الي الموسيقيين ووضعهم الذي فرض عليهم ان ينشدوا بالاعراس والمآتم والحفلات. فيلوم المجتمع والفنانين انفسهم على هذا الوضع الاجتماعي الصعب والوضيع.
النهضة الفنية
في بداية القرن التاسع عشر, لم تكن بلاد الشام قد اكتشفت فعلاً الفن المسرحي. واقتصرت وسائل التسلية على نوعين اساسين من الفنون الشعبية في القهاوي والساحات: الحكواتي وعروض كركوز وعواظ وخيال الظل, الذين شكلا بذور المسرح فيما بعد. ومع انتصاف القرن وتزايد التٲثير الٲوروبي, بدٲت تظهر ملامح المسرح, فعرفت بيروت مسرحيات مارون النقاش (ارزة لبنان) الذي ترجم أولى النصوص المسرحية الغربية وعرضها في دارته (١٨٤٨), واشتهر بدمشق مسرح ابي خليل القباني الذي قدم عروض مسرحية وغنائية كثيرة, ولكنه اصطدم بانغلاق مجتمعه فٳضطر الى الهجرة الى مصر سنة ١٨٨٤.
كانت المسرحيات تُمثّل في منازل اعيان ووجهاء الطبقات الميسورة والغنية وفي الصالونات الادبية. وعرفت المدارس, خصوصاً الارساليات منها, نشاطاً مسرحياً مهماً. مما دفع عدد من المدارس على افتتاح مسارحها الخاصة والتي ما لبث ان استعملت من قبل فرق خاصة. مع الوقت, انتقلت المسرحيات من صحون الدور وايواناتها الى المقاهي, ومن ثمة الى المسارح التي بنيت وانتشرت بداية القرن العشرين على نمط المسرح الغربي حيث تقام المسرحيات وتعرض مختلف انواع الموسيقى والرقص. وكانت تسمى مرسح في البداية او صالة, ومن ثمة انتشر اسم تياترو او كازينو. وكانت الكحول ممنوعة في المسارح. ويذكر فخري البارودي برنامج الغناء في مسارح دمشق الذي كان يتبع اصول الوصلة التقليدية : “يبدٲ المنهاج بوصلة غناء من احد الرجال, وكان اكثر رؤساء التخوت من المصريين. فيفتتح الفصل بوصلة موشحات, ثم ليالي, ثم تقاسيم ودور من النغمة التي غنوا بها الموشح. ثم يختتمون الفصل بقصيدة على الوحدة, تفتتح بهذا البيت[12]:
“آه يا انا, ويش للعواذل عندنا قم ضيع العذال, وواصلني انا”
اما القصيدة فمن اي بحر, ومن اي قافية, وليس لها اقل ارتباط, بالمدخل المذكور ابداً, وانما كان هذا البيت فاتحة قصيدة ليعطي الوزن لٲصحاب الآلات. وبعد انتهاء الفصل, ينزل الستار للاستراحة, ثم يبدٲ الرقص, وكلما انتهت راقصة, استراحت النوبة عشر دقائق الى ان يٲتي دور رئيسة الراقصات. وتكون عادة من ذوات الصوت الرخيم, ومن ربات الصنعة, فتؤدي دورها وتغني قصيدة على الوحدة ايضاً. ثم يمثل فريق من اللاعبين مع اجمل بنت بين الراقصات فصلاً هزلياً لتسلية الناس”[13].
كما عرفت المدن الشامية واريافها الموسيقى والحفلات الشعبية خلال المناسبات. وكانت الجماعات الصوفية في حلب التي تتٲلف من منشد اساسي يرافقه جوق واحياناً بعض الموسيقيين, تؤدي خلال الاعياد الدينية المختلفة. اما الحفلات الخاصة فكانت في منازل خاصة بدعوة من شخصيات مهمة (غنية او سياسية), غالباً بمناسبة معينة (زفاف, ختان, اعياد, سفر…). فكانت حكراً على طبقة معينة (عادة الاغنياء والحكام), هدفها التسلية واظهار اهمية وكرم المضيف.
واعتاد بعض الأعيان والأغنياء الدمشقيون أن يعقدوا سهرات الطرب والكيف كل ليلة في “البراني أو السلاملك” وهو مكان مستقل عن الدار بكل حاجاته, اسمه قناق. ويوجد في بعض القناقات جوقات موسيقية فيها أشهر المغنّين والموسيقيين, وكانت السهرات تعقد من وقت لأخر أو كل يوم. فكان هناك جوق عمر الجراح القانوني (١٨٥٢-١٩٢١), مع اخيه ابراهيم العواد, واحياناً اخوهما محمد الجراح عازف الكمان, وجوق بديع محسن. والمغنيين الشيخ عبد الله ابو حرب (من تلامذة ابي خليل القباني ١٨٣٦-١٩٠٨), الشيخ رشيد عرفة (وهو ايضاً من تلامذة ابي خليل القباني ١٨٣١-١٩٠٧), عبده المولى, من اشهر مغني دوما الذي كان يغني على “طريقة القبضايات اي مواويل بغدادية وشروقية وعتابا”, يصحبه على الناي سعدو حسون[14].
عصر شركات التسجيل :
مع وصول اولى شركات التسجيلات بداية القرن العشرين دخلت بلاد الشام وكافة المنطقة عصراً جديداً. فخلقت جمهوراً ٲوسع من خلال نشر الاسطوانات والاعلانات, كما عززت بشكل كبير من شعبية بعض المطربين. فاشتهر بعض مغنّي وموسيقيّي بلاد الشام في كافة الاقطار العربية, مما غيّر في وضع ومكانة المغني والموسيقي.
ظهرت اول شركة تسجيل عربية بيضافون في بيروت بعد الاتفاق مع شركة تسجيل ٲلمانية في برلين, على يد عائلة بيضا[15], وذلك للتسجيل لفرج الله بيضا مغني العائلة مع عازف العود قاسم الدرزي. لكن الافق المشرقي محدود, وسرعان ما انتشرت وتوسعت. وقد ساعدت تلك الشركة على انتشار وشهرة ابرز موسيقيي ومطربي المشرق. في تلك الاجواء ظهر وعُرِف عدد من المغنيين امثال يوسف تاج[16] الذي سجل العديد من المواويل البغدادية, اذ كان الموال البغدادي رائجاً في العشرينيات في بلاد الشام, وتحديداً في بيروت. والدمشقي محمد العاشق (١٨٨٥-١٩٢٥) الذي لقب ببلبل الزمان, جميل الإدلبي (١٨٧٩-١٩١٩)[17], والشيخ احمد الشيخ (١٨٦٨-١٩٣٨)[18], وأحمد المير… كما سجل العديد من رجال الكنيسة كالمرتل متري المرّ (١٨٨١-١٩٦٩) و الأبوان الانطونيان يوسف العرموني وبولس الأشقر.
ويذكر سعيد فريحة انه سنة ١٩١٨ بمناسبة عيد مار الياس, احيى فرج الله بيضا احتفالاً للطائفة الاورثودكسية في كنيسة مار الياس بطينا. وكان يتصدر حلقة كبيرة, يغني المواويل البغدادية والى جانبه عازف بزق. كانت الحشود كبيرة, كلُ يحاول الاقتراب للاستماع. وكانت العادة خلال تلك الفترة لتحية المطرب والتعبير عن الفرح بالحفل هي باطلاق الرصاص. فلم يكن يكفي التطييب للمغني بالآه فقط, بل “بالتقويص بالهواء”, ف “كل سحبة اوف… بٲلف طلقة”. كانت الاحتفالات اذاً تزخر “بالطرب والرجولة والرصاص”, وكان حلم الفتى سعيد فريحة ان يملك فرد ليعبر به عن فرحه واعجابه بفرج الله[19]!!!
كما عُرف محيي الدين بعيون (١٨٦٨-١٩٣١؟) مغني وعازف البزق البيروتي “الفارغ القامة الٲسمراني” الذي مثّل في العشرينيات تلك المدرسة المدينية السورية-اللبنانية والتي كانت تعتمد تحديداً على القصائد. كان محيي الدين بعيون تلميذ القانونجي أحمد البدوي المصري الأصل والقاطن طرابلس الشام. قال عنه جرجي نخلة حين احيى مع عازف القانون زاكي افندي حفلة بمناسبة زواج جرجي افندي عطا الله[20]:
يا صاحب الصوت الرخيم جرحتنا و شفيت قلب الواله المجروح
سموك محيي الدين عن خطٳ و لو هم انصفوا سموك محيي الروح
وعرف شهرة واسعة, وذُكر انه يوم مات أقاموا له حفلة تأبينية موسيقية كبيرة في دمشق اشترك بها اكثر من مئة موسيقي وكان من بينهم سامي الشوا وإبراهيم شامية.
وفي بداية القرن العشرين بدٲ التٲثر الغربي يتغلغل في المجتمعات السورية. وظهرت محاولات متعددة لتٲسيس معاهد واندية موسيقية نواتها طبقة من البرجوازيين, لحماية حقوق الموسيقيين, لاقت صعوبة بالاستمرار.
كما شهدت المنطقة اهتمام وانفتاح اساسي على الغرب بعد الحرب العالمية الاولى, مع انحدار السلطنة العثمانية وبداية الانتداب الفرنسي والانكليزي. فبدٲ الاهتمام بالآلات الغربية والانواع الموسيقية الغربية. وانتشرت الاناشيد و المونولوجات (الاجتماعية الانتقادية و الرومنسية) مع عمر الزعني ويحيى اللبابيدي والاغاني ذات الايقاعات الغربية (كالتانجو, الرومبا, السامبا, والفالس). وتطورت الموسيقى التغريبية مع افتتاح اولى المدارس والمعاهد الموسيقية التي تتّبع المناهج الغربية. كان الاهتمام في تعلم وتذوّق الموسيقى الغربية وخاصة الكلاسيكية اكثر شيوعاً بين الطبقة المتوسطة-الغنية والنخبة المثقفة في المدن السورية. وعرفت بلاد الشام افكار جديدة في الموسيقى, وبداية التدوين الموسيقي التغريبي وما تلاه من نقاشات حول كيفية وآلية التدوين والتدريب الموسيقي.
النساء و الغناء
لم يكن الغناء والموسيقى في القرن التاسع عشر عالم مقبول للنساء. ولكن في نهاية القرن ظهرت مغنية بيروتية مشهورة اسمها ليلى. قال عنها الشيخ الكستي:
إن ليلى إذا تجلّت وغنت طاب أنسي وصار ليلي صباحا
غادة صوتها عن القلب ينفي كل همّ ويبث الأفراحا[21]
واحيت “المطربة المتفننة” ليلى وجوقها العديد من الحفلات في القهاوي وفي اعراس العائلات الغنية (كعائلة فرعون)[22]. وشاركت في مسرحيات ابي خليل القباني. كما يُذكر وجود مغنية اخرى اسمها “هندية” ارادت الاعتزال سنة ١٨٨٧, ولكن والديها رفضا ذلك طمعاً بالمال[23].
ومن المرجح ان اولى المغنيات الشاميات كنّ يهوديات. فقد ذكرت سنة ١٨٨٢ مديرة المدرسة البريطانية في دمشق مسز ماكنتوش ٲنّ معظم مغنيات دمشق كنّ يهوديات. وبحسب فخري البارودي كانت المغنيات البلديات اللواتي يحترفن الغناء والرقص في دمشق تسمى بالمغاني. وذكر بمذكراته بأنه “كان في دمشق عادة غريبة، تقضي على الأم بأن تبيع طفلها رمزيا من إحدى المغنيات، فيحفطه الله عندئذ لأهله“[24]. ويذكر انّ أشهر المغنيات كنّ يهوديات :” رحلو الترك، رحلو سلطانه، بنات الشطاح، نظيرة عنبة، بدرية مواس، بدرية سعادة (وكانت جميلة العينين)، بنات مكنو[25]، حسيبة ومريم وروجينا[26]، وطيره، وشفيقة، وسمحة، وحسيبة أتشي، ومن أجملهن صلحة الأبيض. وكان غواتها من أرقى الدمشقيين، حتى إن أحدهم كان ينام على عتبة بابها حتى الصباح، إذا لم تستقبله! ومن المغنيات المسلمات “رسمية جمعة”، وكانت كفيفة البصر، تضرب بالعود ولا تحضر إلا حفلات النساء. ومنهنَ أيضا بنات “علي عملك” وفهمية ضاربة القانون، وشقيقاتها اللواتي كن يضحكن الحضور، وبنت “أبو قفة” وهي من الضاربات على النقرزان.“[27]
وتوجهت العديد من يهوديات ومسيحيات الشام الى مصر حيث الظروف الاجتماعية والفنية متقبلة اكثر للوجود النسائي, كالممثلة مريم سماط[28] التي بدٲت مع شقيقتها لبيبة سماط في فرقة أبي خليل القباني, وشاركت رحمين “المطرب الشهير والممثل البارع” في رواية “الطبيب المغصوب” تٲليف وتمثيل اسكندر صيقلي[29]. كما عُرفت الممثلة هيلانة بيطار[30] التي كانت في فرقة سلامة حجازي, ألمظ ستاتي وشقيقتها إبريز ستاتي مع فرقة سليمان قرداحي، ماري صوفان, وملكة سرور التي كانت مطربة مشهورة وماهرة في العزف على القانون.
مع بداية عصر التسجيلات والانفتاح الذي شهدته المنطقة, عرفت بعض مطربات بلاد الشام الشهرة وتحسّن موقعهن. فاشتهرت في بلاد الشام مغنية بيروتية يهودية اسمها حسيبة موشى لقبت بالسّت وسميت «بلبل الرياض الشامية», هي من اوائل المطربات الشاميات اللاتي سجلن إسطوانات لشركة جرامفون في بدايات القرن العشرين. وقد لحن لها كبار الملحنين المعاصرين لها ومنهم أنطوان الشوا. كما عُرفت ثريّا قدّورة, نجيّة الشاميّة وعلياء الاطرش التي سجلت مع يوسف تاج العديد من المواويل البغدادية.
الحانات الراقصة:
مع بداية التٲثير الغربي والانفتاح الذي عرفته بلاد الشام, تطورت في اهم المدن الشامية حانات راقصة استقدمت اهم العوالم المصرية والراقصات العربية والاجنبية. ففي نهاية القرن التاسع عشر, ظهرت في بيروت مقاهي وملاهي الخلاعة او المقصف[31], عُرِفت “كمراسح للخلاعة والبطر والفساد”[32], كقهوة لوكا او المرصد التي اشتهرت ببراعة بناتها التي كن اوروبيات يسميهن “بنات القهوة” او “بنات الموسيقى” لانّهن كنّ يلعبن الموسيقى. اما المسؤولة عنهن فكانت تسمى “كومبانية”. كان القانون يمنع مجالسة “بنات الموسيقى” للرجال. وغالباً ما كانت تلك الملاهي ممنوعة على المسلمين[33].
مع تطور تلك الملاهي, عرفت مسارح دمشق جوق من النساء مؤلفة من رئيسة الجوق, مع ثلاث او اربع نساء, ترافقهن فرقة موسيقية من الرجال[34]. وكان اختلاط الرجال بنساء المسرح ممنوعاً ايضاً في دمشق. ولكن عند خروجهن من المسرح, كان الرجال يتجمعون حولهن للتودد او للمشاكل. وكان شرطي يراقبهن دائماً لمنع اي احتكاك او تواصل, ويهددهن بمنعهن من العمل في المسرح مجدداً. وشهدت تلك الملاهي-المقاصف تغييراً خلال العشرينيات والثلاثينيات تزامن مع كافة التغييرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلد. وتطور نوع جديد من الحانات متغرب يُعرف بٳسم بار او كازينو او دانسينغ, “ٲرتيستاته” اوروبيات يُسمح لهن بمراقصة الرجال ومجالستهن, على شرط تقديم الشراب لهن[35]. وعرفت بيروت والعديد من المدن الشامية تغييرات مماثلة. وذلك “نتيجة الاختلاط بالاجانب والسعي الى تقليدهم”[36]. فتغير الذوق البيروتي الذي اضحى متغرب يستهويه كل ما هو غربي. واصبحت اهم وسائل التسلية التي يقبل عليها البيروتيون والشاميون هي السينما والحانات الراقصة وسباق الخيل.
المجتمع و الفن
بقيت النظرة الى الموسيقى والمسرح سيئة في المجتمع رغم كافة التغييرات. فخلال زيارة الممثل المصري بمسرح رمسيس قاسم وجدي لبلاد الشام سنة ١٩٢٦, وجد صعوبة كبيرة بالحصول على اية معلومات او احاديث من البيروتيين عن المسرح. حتى انه اراد تصوير بعض المسارح. ولكن اصحابها لم يرفضوا مباشرة, انما ماطلوه واخترعوا الحجج لكي لا يتمكن من التصوير. فساعة ادعوا انهم ارسلوا في طلب المصور فلم يجدوه, وساعة قالوا بانه اعطاهم ميعاداً ولم يحضر. حتى انه جاء بمصور الى احد المسارح, فتذرع صاحبه بعدم جهوزية المسرح “فهو غير مكنس و لم تصف كراسيه” وطلب منه العودة في اليوم التالي. الا انه عندما عاد كان المسرح مغلقاً على غير عادته!![37]
و بحسب بعض الذين يعملون بالمسرح والغناء, لم تعرف تلك الفنون الاهمية التي عرفتها بمصر. فالمجتمع السوري محافظ وبالنسبة له المسرح هو مكان للتسلية فقط. لذا فهو يفضل الروايات الشرقية والغنائية التي ترتبط بثقافته والتي تتعاطى بٲموره اليومية, على تلك الغربية المُعرّبة. وغالباً ما كان يُسمع من البيروتيين بعد عرض رواية لفرقة جورج ابيض التعاليق التالية : “شو هيدا, شو بهمنا نحنا من ها اللويس (لويس الحادي عشر), ولا ها المتعوس اللي بيتجوز امه (اوديب الملك) مثل الجاج (الدجاج) شو وينه صلاح الدين, وين عنتر, العمى, شو بيسووا ما ٳلهم ذكرى هلٲ”[38].
وكان من الصعب تكوين فرق مسرحية غنائية محترفة في بيروت خصوصاً, وبلاد الشام عموماً. فبحسب متعهد جرائد سوريا خضر نحاس الذي كان المتعهد الاول للحفلات التمثيلية والغنائية في بيروت, ٳنّ فكرة تكوين فرقة من الممثلين والمغنيين المحترفين سابقة لٲوانها وتُعتبر مخاطرة, ذلك لٲن المجتمع والفنانين ليس لديهم الاستعداد و المؤهلات الكافية.
والروايات الٲكثر رواجاً ونجاحاً كانت تلك “الفكاهية الممتزجة بالالحان” كروايات كشكش بك, التي كانت تغص بالحضور, فكان على الجمهور ان يٲتي قبل ساعتين ليجد مكاناً للجلوس[39]. اما الروايات الٲدبية فكانت تستهوي الطبقة الغنية (كعائلات سرسق وبيهم) والمثقفة (كالادباء والصحافيين…).
ولكي تنجح الرواية, كان عليها الاعتماد على مطرب او مطربة للغناء بين الفصول, لٲن الشعب يفضل التمثيل مع الغناء. وكان على المطرب ان يؤدي قبل بدء الرواية, في خلال كل فصل من فصولها, وحتى في النهاية, وٳلا ملٲ الجمهور “الدنيا صياحاً وضجيجاً”, وذلك بغض النظر عن مدى اتقان وبراعة المطرب. فالجمهور يفضل المغنى “حتى لو لم تتوفر فيه كل شروط الطرب”[40] , فيستمع اكثر الى الغناء في الروايات.
و كانت المسارح البيروتية تتميز عن تلك المصرية باستمرار الاكل والشرب خلال العرض. فالبيروتي “لا يتمتع بلياقات المسرح”, يعتبر المسرح بيته الخاص يستطيع ان يقول ويفعل فيه ما يشاء”[41], لا يستغني عن الارجيلة طوال مدة العرض ويحضر معه اللب والفول السوداني ليٲكلها و”يقزقزها” خلال العرض. وغالباً ما كانت الفوضى تعم بالمسارح بسبب بعض الحضور, فالاندية “على صغرها لا تخلو من صيحات وصفير قويين” للتعبير عن الاستحسان او الاستهجان” [42].
و نختم حديثنا بوصف لتوفيق عواد للمسرح خلال عرض مسرحية لكشكش بك يلخص كل ذلك : “واذا جئت احدثك عن الصفير, وضرب الارجل والعصى في الارض, وعن قرقرة الاراكيل, وتصويت البزر والفستق بين الاسنان, وعن صراخ الكرسونات وندائات الساعة, وضجة الاقداح على طاولات العرق, لطال لي المجال, وساء المآل“[43].
ديانا عبّاني
[1] كالمفتي الشيخ أحمد الأغر والشيخ عمر الأنسي، والشيخ عمر اليافي
[2]عبد اللطيف فاخوري, ” رحلة في دواوين الشيوخ عمر اليافي.. أحمد الأغر وعمر الأنسي: الأغاني الشعبية والتنزيلات الدينية البيروتية”, اللواء الثقافي ,٣ أيار ٢٠١٣
[3] احمد فارس الشدياق, “في موسيقى اهل مالطا و غيرهم”, كنز الرغائب في منتخبات الجوائب, ١٨٨٢
[4] صاحب بستان وجنينة إدريس التي اعطى إسمه الى أحد أبواب بيروت واحدى محلاتها ,و الذي كان يتمتع ب” أجمل صوت عرفته بيروت في منتصف القرن التاسع عشر”
[5] عبد اللطيف فاخوري, الآلات الموسيقية والمطربون ومجالس الغناء في بيروت من خلال دواوين شعرائها “, اللواء الثقافي, ٦ نيسان ٢٠١٣
[6] لسان الحال, ١٢ اذار ١٩٠٣,عدد ٤٢٤٥
[7] لسان الحال, ١٦ اذار ١٩٠٣,عدد ٤٢٤٨
[8] لسان الحال, ٢٣ ايار ١٩٠٣,عدد ٤٣٠٦
[9] وقد احيى “الجوق المصري” بقيادة طانيوس واكد عدة مسرحيات غنائية في بيروت يقوم باهم ادوارها الشيخ حسن صالح “المطرب الشهير” و رحمين افندي المصري “استاذ التمثيل و التلحين … الحائز قصب السبق بهذا الفن”.
[10] لسان الحال, ١٩ ايار ١٩٠٣,عدد ٤٣٠٢
[11] جبران خليل جبران, العواصف ,”مسرحية الصلبان”, ١٩٢٠.
[12] او ما يعرف بالعوازل
[13] فخري البارودي, اوراق ومذكرات فخري البارودي, تحقيق دعد الحكيم, ١٩٩٩, ص. ١٠٧
[14] فخري البارودي, اوراق ومذكرات فخري البارودي, تحقيق دعد الحكيم, ١٩٩٩, ص. ١٣٤-١٣٥
[15] المؤلفة من الٲخوين جبران و فرج الله, مع ابناء عمهم بطرس و جبران و ميشال
[16] انتمى الى الحزب القومي السوري, وكان من مؤسسيه. احييى عدة حفلات للحزب
[17] تعلم الموسيقى على يد عبد الرزاق البيطار في دمشق, حاول الغناء في مصر, ولكنه فشل, مات من الحمى التيفوئيدية
[18] “عندليب الغوطة” ينتمي الى اسرة منشدين مشهورة بالشام .انضم الى فرقة ابي خليل القباني. هاجر الى يافا وفيما بعد الى مصر. وكان من بين الخبراء الذين ساعدوا المستشرق الفرنسي الابكولانجيت في دراسة الموسيقى العربية.
[19] سعيد فريحة, الغناء البغدادي, ١٩٧٢.
[20] البرق, ١ كانون الثاني ١٩١٤, عدد ٢٥٧
[21] عبد اللطيف فاخوري, الآلات الموسيقية والمطربون ومجالس الغناء في بيروت من خلال دواوين شعرائها “, اللواء الثقافي, ٦ نيسان ٢٠١٣
[22] لسان الحال, ١٦ آب ١٨٩٧, عدد ٢٥٨٢
[23] عبد اللطيف فاخوري, الآلات الموسيقية والمطربون ومجالس الغناء في بيروت من خلال دواوين شعرائها “, اللواء الثقافي, ٦ نيسان ٢٠١٣
[24] فخري البارودي, اوراق ومذكرات فخري البارودي, تحقيق دعد الحكيم, ١٩٩٩, ص.١٠٥
[25] وهن من أشهر مغنيات يهود دمشق, خصوصاً في الاعراس
[26] “المغنية الشهيرة في الشام” التي شاركت في الغناء خلال بعض المسرحيات و ذُكر انها جاءت الى بيروت سنة ١٨٩٧ و غنت بين فصول مسرحية عاقبة الغرام (لسان الحال, ٢١ نيسان ١٨٩٧, عدد ٢٤٨٥)
[27] فخري البارودي, اوراق ومذكرات فخري البارودي, تحقيق دعد الحكيم, ١٩٩٩, ص.١٠٥
[28] كتبت مريم سماط ٲول مذكرات لممثلة في جريدة الاهرام سنة ١٩١٥.
[29] لسان الحال, الجمعة, ١٤ تشرين الاول ١٩٠٤, , عدد ٤٦٨١: ذُكر للمرّة الاولى اسم ممثلة
[30] وهي ٲيضاً من أولى الممثلات التي تنشر الصحف اسمها علانية عام ١٨٨٥، حيث ذكرت جريدة الأهرام جميع أسماء ممثلين فرقة يوسف الخياط
[31] لسان الحال, ٢ تموز ١٩٠٠, عدد ٣٤٦٠
[32] لسان الحال, ٢٩ ايار ١٨٩٩, عدد ٣١٢٦.
[33] لسان الحال, ٣١ كانون الثاني ١٩٠٣, عدد ٤٣٢٣
[34] كاظم الداغستاني, “المسرح والمقصف”, مجلة الثقافة (١٩٣٣-١٩٣٤)
[35] كاظم الداغستاني, ” المسرح والمقصف”, مجلة الثقافة (١٩٣٣-١٩٣٤)
[36] كرم البستاني, مجلة العواصف, ١٤ ايار ١٩٣٢, عدد ٨
[37] قاسم وجدي ,”المسرح في بلاد الشام”, مجلة المسرح, اوكتوبر ١٩٢٦
[38] قاسم وجدي ,”المسرح في بلاد الشام”, مجلة المسرح, اوكتوبر ١٩٢٦
[39] توفيق عواد, “في دور التمثيل: رواية رسول الشمس على مسرح الكريستال”, البيان, ٢٣ اذار ١٩٣٠, عدد ٣١٨.
[40] قاسم وجدي ,”المسرح في بلاد الشام”, مجلة المسرح, اوكتوبر ١٩٢٦
[41], توفيق عواد, “في دور التمثيل: رواية رسول الشمس على مسرح الكريستال”, البيان, ٢٣ اذار ١٩٣٠, عدد ٣١٨.
[42] نوح, “اداب المسرح”, البيان, ١٢ شباط ١٩٢٨, عدد ٢٤٥.
[43] توفيق عواد, “في دور التمثيل: رواية رسول الشمس على مسرح الكريستال”, البيان, ٢٣ اذار ١٩٣٠, عدد ٣١٨.