فجر المدرسة الخديويّة
شهد الموسيقيّون المصريّون منذ اعتلاء إسماعيل باشا العرش سياسة لرعاية الفنّ تتعدّى حدود دعوات المناسبات، والسّياسة الّتي انتهجها إسماعيل باشا ولا سيّما جهوده لتزيين مدينة القاهرة خير دليل على صورة هذا الحاكم كراع للفنون.
ويشير مصطلح “المدرسة الخديويّة” إلى نمط من الموسيقى المتقنة يؤدّى في المناسبات الخاصّة ؛ وجرت العادة أن تتألّف السّهرة من ثلاث وصلات وأن تكون الوصلة الثّالثة هي المفضّلة عند جمهور الحاضرين إذ يكون صوت المطرب قد بلغ ذروة الطّلاقة ؛ وبغضّ النّظر عن مدى طول الارتجال لم تكن مدّة الوصلة الواحدة تزيد على السّاعة أو السّاعة ونصف السّاعة ؛ والوصلة سلسلة من القطع الغنائيّة من قوالب مختلفة تتخلّلها مقدّمات وفواصل آليّة وينتظم جميعَها هيكلٌ مقاميّ واحد ؛ وكان في فترات الاستراحة الّتي تفصل بين وصلة وأخرى مُتّسع لشتّى صنوف المزاح واللّهو والثّرثرة ؛ وكان الظّرف شرطا أساسيّا من شروط نجاح المطربات ؛ كذلك نوّه الّذين أرّخوا لسيرة سكينة وألمظ بفطنتهما وظرفهما ؛ ولم يتمّ النّجاح لأمّ كلثوم في القرن العشرين إلاّ بعد أن خلعت رداء الفلاّحة لتصبح سيّدة من سيّدات المجتمع قادرة على إلقاء “القفشات”، سيّدة قاهريّة حقّا مثلما نقول سيّدة باريسيّة حقّا.
وتكمن عبقريّة المدرسة الخديويّة في القدرة على التّأليف بين ثقافات موسيقيّة وصهر عناصر من مكوّنات الذّكر الصّوفيّ في قالب الوصلة ؛ والغناء هو الوحيد بين ملذّات الخاصّة الّذي صار في متناول الكادحين (على الأقلّ في المدينة) إذ كان بإمكانهم حضور الحفلات العامّة لكبار المطربين حينما قرّر الخديوي إقامة تلك الحفلات بمناسبة عيد الجلوس أو لمن كان منهم قادرا على دفع ثمن الدّخول إلى ملاهي الأزبكيّة ؛ كما لم يَتَساوَ النّصارى من الشّوام ويهود الحاره والمسلمون جميعا يساعد بعضُهم بعضا ويحترم بعضُهم بعضا في أيّ مجال آخر عدا مجال الفنّ ؛ وكانت العروض الّتي تقدّم على مسارح القاهرة تراوح بين الغناء الرّاقي والموسيقى الخفيفة سواء أكانت تلك المسارح مسارح لائقة أم ملاهي ؛ وكان على نفس المؤدّي أن يكون قادرا على أداء أيّ من الصّنفين حسب رغبة الجمهور ؛ وهكذا بدأ التّداخل بين هذين الرّصيدين قبل أن تحل فترة العشرينات الصّاخبة الّتي مثّلت العهد الذّهبيّ للمسرح الغنائي في القاهرة .
ومن أبرز الأحداث في حياة ملاهي فترة ما قبل الحرب صعود عدد كبير من النّساء على خشبات المسارح ؛ وسواء أكان أولئك النّساء من “العوالم” المتهتّكات أم من المبتدئات في المسرح فإنّهنّ أصبحن يرفضن لقب “العالمه” ؛ ومع ذلك فإنّ لفظة “يا أسطى” والقهقهات الّتي كنّ يبثثنها في اسطواناتهنّ لم تكن لتدع أيّ مجال للشّكّ في مَنبَتِهنّ… وكان النّمط المعتاد لارتقائهنّ في السّلّم الاجتماعيّ يتمثّل في الانتقال من إحياء حفلات الزّفاف إلى الفوز بعمل ثابت في أحد الملاهي ؛ وأحيانا ما كانت الرّوابط الأسريّة تربط ما بين مطربات القرن العشرين وعوالم القرن التّاسع عشر، وما كانت المطربة الكبيرة المميّزة فتحيّة أحمد وشقيقتاها العابثتان رتيبة ومفيدة إلاّ بنات أخت بَمبَه كَشَّرْ ؛ وكان يصاحب أولئك المطربات تخت كلاسيكيّ مؤلّف من عازفين من الرّجال، وقد ابتدعن قالبا غنائيّا صار القالب الغنائيّ الغالب في العشرينات هو قالب الطّقطوقة ؛ وقد كان صعود العالمة على المسرح يعدّ بمثابة علامة حظوة اجتماعيّة إذا ما كانت سمعة المسرح طيّبة.
الموسيقى في حراك النّهضة
لم يترك أرباب الطّرب الّذين مهّدوا لازدهار عصر الموسيقى العربيّة الذّهبيّ إبّان النّهضة أيّة كتابات نظريّة أو مراسلات تَجلو الأسس الفكريّة لمذهبهم الفنّيّ ؛ ولم يترك أيّ من عبده الحامولي أومحمّد عثمان أو يوسف المنيلاوي أو أيّ مطرب أو عازف آخر من الّذين بلوروا معالم مدرسة موسيقيّة امتدّت آثارها إلى العقود الأولى من القرن العشرين أيّة شهادة عن فنّه ؛ ولم يدرك موقعَ المدرسة الخديويّة من النّهضة ولم يَرضَ بإقامة الصّلة بين هذا السّياق الفكريّ وذاك الإبداع الجماليّ سوى القليلين ؛ وأغلب ما وصلنا من معلومات عن الحامولي أو عثمان أو سلامه حجازي جاءنا من مصادر خارجة عن دائرة النّشاط الموسيقيّ، وهي مصادر كثيرا ما كان يغلب عليها طابع التّمجيد ؛ والسبّب الأهمّ لغياب التّنظير من تجربة المدرسة الخديويّة هو أنّ تلك المدرسة لم تعمّر وقتا كافيا لإنتاج جهد نظريّ ذي بال ؛ لقد كان على مصر في مواجهة التّحدّي الثّقافيّ الغربيّ أن تقدّم فنّا متقنا رفيع الشّأن ؛ وكان ذلك التّحدّي تحدّيا حقيقيّا إذ قُيِّض للنُّخَب المصريّة الّتي تلقّت تعليمها في الجامعات الفرنسيّة أن تقف على ما كان للموسيقى من منزلة رفيعه في أوروبا ؛ وإذ بهرها بريق الأوركسترا والأوبرا ما كان لها أن ترضى بموسيقى عربيّة تقليديّة صِرف.
موجة اسطوانات 78 لفّة العارمة
لقد بدأ استقرار التّوازن الّذي أقيم تدريجيّا بين مختلف الأطراف المشاركة في الحياة الموسيقيّة في مصر في الانخرام عند نهاية الحرب، وبدأ الإنتاج النّصّيّ والموسيقيّ يشهد تحوّلاته الأولى الّتي سبقت “منعرج” الثّلاثينات الكبير وبشّرت به في آن ؛ وكان أحد أهمّ أسباب تلك التّحوّلات وأبرزها على الإطلاق ظهور التّسجيلات التّجاريّة منذ سنة 1903 ؛ وخلال “عصر الفونوغراف” نافست اسطوانات 78 لفّة الحفلات العامّة أو الخاصّة لتصبح هي الوسيلة الأولى لنشر الموسيقى قبل أن تزعزع هيمنتَها في منتصف الثّلاثينات وسائلُ أخرى مثل الإذاعة والسّينما.
ولم تكن صناعة الاسطوانات مجرّد انعكاس للنّشاط الموسيقيّ، بل إنّها شكّلت محرّكا للتّغيير على الصّعيدين الشّكليّ والاجتماعيّ، وقلب ظهورها في المجتمع المصريّ المشهدَ الموسيقيّ رأسا على عقب على مستوى المؤسّسات والممارسات معا وفي وقت لاحق على مستوى الجماليّات أيضا ؛ ولما كانت مدّة كلّ وجه من وجهي الاسطوانة لا تزيد على ثلاث دقائق فقد اقتضى ذلك تطويع الأجزاء المطوّلة من الوصلة الغنائيّة والأدوار تحديدا لتوافق تلك الحدود (كان الدّور في أفضل الأحوال يُقسَم بين وجهي اسطوانة إلى أربعة وجوه بينما كانت القصيدة غالبا ما تُقسَم بين وجهين ممّا كان يضطرّ المطرب إلى الانقطاع عن الغناء ثمّ استئنافه مرّة واحدة أو أكثر من مرّة خلال تسجيل القطعة الغنائيّة الواحدة) ؛ وفضلا عن ذلك اضطرّ المطربون من أمثال المنيلاوي أو حلمي الّذين اعتادوا على أداء القطعة الواحدة على طراز جديد في كلّ حفلة من حفلاتهم إلى إخراج صيغة واحدة مسجّلة حتّى وإن وجدنا في بعض الحالات صيغا مسجّلة مختلفة لنفس القطعة ؛ ومن البديهيّ أنّ التّسجيلات لم تكن تعكس حقيقة الحفلات، وقد وجب الانتظار إلى حين عهد صالح عبد الحي لنحصل على تسجيلات مطوّلة للوصلات، غير أنّها لم تكن على اسطوانات 78 لفّة.
وأخيرا كانت بداية الثّلاثينات هي الفترة الّتي تعدّدت فيها المحطّات الإذاعيّة المستقلّة، وقد ارتفع عددها بالقاهرة بين سنتي 1926 و 1932 إلى أربع عشرة محطّة كثيرا ما كانت مرتبطة بمحلاّت تجاريّة تستخدمها لأغراض الدّعاية ؛ وقد قامت الحكومة المصريّة سنة 1932 بحظر المحطّات الإذاعيّة الخاصّة ودُشِّنت الإذاعة الرّسميّة يوم 31 أيار/مايو 1934 بأغنية لأمّ كلثوم ؛ وليس من اليسير تقدير أثر الإذاعة في مبيعات الاسطوانات.
لم يكن أمام موسيقى النّهضة عند المدرسة الخديويّة سوى خمسين عاما لإنتاج رصيد موسيقيّ مشترك كان محتوما أن يكون أضيق من أن يَدرَأ السَّأَم حين أدائه أمام جمهور متشوّق إلى الجديد، ثمّ إنّه بمجرّد أن أصبحت الأعمال الموسيقيّة مِلكا للشّركات دون الفنّانين فإنّ الشّركة ستقوم لا محالة بتتبّع أيّ شخص تسوّل له نفسه استخدام عمل من الأعمال الموسيقيّة دون إذن مسبق، فحال ذلك دون تحوّل تلك الأعمال إلى تراث كلاسيكيّ حسب المعنى الأصليّ لهذا المصطلح ؛ وإنّه لمن سخرية الأقدار أنّ صناعة اسطوانات 78 لفّة قد مثّلت بالنّسبة إلى تلك الموسيقى الّتي كانت في مطلع القرن العشرين موسيقى شفهيّة خالصة فرصة لا تقدّر بثمن لحفظ تلك الموسيقى وحكما مبرما بإعدامها في الآن نفسه.
الدّور
يمكن اعتبار الدّور أهمّ قالب موسيقيّ خلال القرن التّاسع عشر والرّبع الأوّل من القرن العشرين ؛ وكان المطرب وجماعة الرّديّده أو المذهبجيّه يؤدّون أبياتا من الشّعر العامّيّ المصريّ يضبطها ملحّن كثيرا ما يكون المطرب نفسه ؛ ويصاحب المطربَ تختٌ يضمّ عادة خمسة عازفين (عود وكمانجه وقانون وناي ودفّ وأحيانا طبله أو “دربكّه”).
ويتّسم الدّور باعتماد قالب شعريّ فريد لا يلتزم قافية واحدة منتظمة يمثّل المقطع الأوّل منه المذهب ويمثّل المقطع الثّاني الغصن، وقد يصل الدّور أحيانا إلى خمسة أغصان ؛ ويؤدّي المطرب الدّور الّذي يكون ملحّنا وفقا لمسار مقاميّ معيّن دون أن يكون ملزما بأداء صيغة مكتوبة من وضع الملحّن أداء أمينا أو بما يتخلّل تلك الصّيغة من تنويعات.
ويمسك المطرب بزمام الأداء مرتجلا أثناء التّدرّج في أطوار المقام المختار للّحن ؛ ويفسح الدّور للمطرب، وهو قالب نصف ملحّن، مجالا للارتجال من خلال الغصن وبصفة أخصّ أثناء قسم الهنك ؛ والهنك هو حين يلقي المطرب جملة ليردّدها المذهبجيّة من بعده، ويتتالى التّكرار على هيئة سؤال وجواب ؛ وللمطرب الحرّيّة في إتيان تغييرات في مضمون جُمَلِه أو لونها المقاميّ إمّا على سبيل التّنويع على ردود المذهبجيّة أو على خلافها ؛ وهذا الهنك هو علامة على ما كان لإنشاد الطّرق الصّوفيّة من تأثير عظيم في الدّور.
أمّا كلمات الدّور فهي لا تعبّر عن حالة معيّنة ضمن سياقِ مجتمعٍ محدّد تاريخيّا، إن هي إلاّ استجابة لضرورة التّعبير عن مشاعر الحبّ بعبارات تكون على قدر كاف من الإبهام والعموم لتكون مجسِّمة لتجارب الجميع ويتسنّى للجمهور إعادة استخدامها ؛ كذلك تُكرَّر الصّور وتُدمَج ويُتلاعَب بها سعيا وراء التّعبير عن شعور عامّ ؛ وتعمل مفردات الدّور في نهاية المطاف بموازاة جماليّات الموسيقى الّتي تَحكُم هذا القالب أي المقام، فللنّغمات كما للكلمات سلّم ثابت وأبعاد معلومة سلفا ومحطّات لا بدّ من احترامها ؛ وجميعُ التّركيبات وكلّ التّغييرات ممكنة شريطة عدم العدول عن تلك القاعدة ؛ وقد كان محمّد عبد الرّحيم الشّهير بالمسلوب (1793-1928) أشهر ملحّن ومؤدّ للدّور في النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر، ثمّ جاء عبده الحامولي (1845-1901) ومحمّد عثمان (1855-1900) وأبدعا عددا كبيرا من الأدوار وساهما من خلال ما وضعاه من ألحان وأدائهما تلك الألحان بصفتهما مُطربَيْن في تثبيت الشّكل النّهائيّ لقالب الدّور.