لا مجال هنا للحديث عن تفاصيل سيرة أمّ كلثوم، فمَن ذا الذي يجهل أيّا من تلك التفاصيل عن مولدها ونشأتها واكتشاف صوتها وانتقالها من قريتها إلى القاهرة وخطواتها الأولى في عالم الغناء وتعلّمها من أقطاب الغناء والأدب والموسيقى ثمّ تنافسها مع منيرة المهديّة وفتحيّة أحمد قبل أن يستتبّ لها الأمر، فضلا عن أسطواناتها وحفلاتها العامّة وأسفارها ومختلف المراحل التي مرّ بها فنّها والشخصيّات الفنيّة التي طبعت كلّ مرحلة من تلك المراحل.
حَسبُنا هنا القولُ إنّ أمّ كلثوم، فضلاً عن مكانتها الفريدة في تاريخ الغناء المصريّ والعربيّ المعاصر، قد مثّلت شخصيّة محوريّة ومنعرجاً حاسماً في ذلك التاريخ، إذ اختزنت في تجربتها الشخصيّة والفنيّة عصارة مرحلة مضت من تاريخ الغناء بمراجعه النهضويّة، وحملت في الآن نفسه بذور مرحلة جديدة. فقد وفّقت أمّ كلثوم إلى حدّ كبير، لا سيّما خلال العقود الثلاثة الأولى من مسيرتها الفنيّة، في احتواء بعض مقوّمات جماليات النهضة الأساسيّة وإعادة توظيفها في جديد غنائها بقوالبه وأدائه. غير أنّ عبقريّتها وإمكاناتها الصوتيّة الفذّة لم تكن كافية وحدها لتؤسّس لمدرسة جديدة أصيلة في الغناء العربيّ لأسباب تتجاوز حدود تجربة أمّ كلثوم رغم ثراء تلك التّجربة ورسوخها في تاريخنا الفنيّ المعاصر.
وأهمّ السّمات والقيم التي حفظتها أمّ كلثوم وأوصلتها إلى أسماع أجيال المستمعين الذين عاصروها من خصائص موسيقى النّهضة، وإن أجرت عليها ما رأته مناسباً من تعديل وتطويع، هي :
– الحفاظ على إطار الوصلة العامّ رغم التخلّي عن مكوّناته القديمة واستبدالها جميعها بالأغنية الطويلة ؛
– الحفاظ على هيكل التّخت الشرقيّ وسماته الجوهريّة (طبيعة الآلات المستخدَمة وتوزيع الأدوار والرُّتَب من حيث الأهميّة بينَها والإبقاءُ على حدّ أدنى من الحريّة في أدائها الجماعيّ والفرديّ وعدم إخضاعها لسلطان النّوتة المكتوبة ووظيفة قائد الأوركسترا الغربيّ) رغم التّوسّع في العدد ؛
– التّمسّك بخصائص الموسيقى العربيّة التي استحكمت في السنّة الموسيقيّة باعتبارها في الأصل موسيقى “شفهيّة” غير مدوّنة وموسيقى مقاميّة عمادها الفرد (أو الأفراد المتعدّدون) لا الجماعة المنظّمة المنضبطة، والتّعامل مع اللحن باعتباره مادّة أوّليّة خاماً قابلة للتّصرّف بالتّعديل والزّيادة، لا نصّاً ثابتاً جامداً يُستظهر كما هو بحرفيّته المدوَّنة في النّوتة أو المحفوظة عن ظهر قلب ؛
– التّعامل مع جمهور المستمعين/المشاهدين باعتباره طرفاً فاعلاً في عمليّة الإبداع الفنيّ تحاوره ويحاورها بالاقتراح والاستحسان والاستزادة من جانبه، والتلبية والتفاعل المبدع من جانبها حيناً والامتعاض أو الاستنكار وفتور الهمّة حيناً آخر، ممّا لا شأن له بالإنصات الصّامت الخاشع في عروض الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة.