مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة تقدّم: من التاريخ
الشيخ زكريّا أحمد
فكرة وإعداد: مصطفى سعيد
حوارٌ بين فردريك لاگرونج ومصطفى سعيد:
م: أهلاً وسهلاً بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج “من التاريخ“، ومعنا فردريك أفندي لاگرنج.
ف: ألم آخذ البكاويّة بعد كلّ هذا الوقت؟
م: يا نهار أبيض! صاحب المقام الرفيع
ف: الله يخلّيك: أشوفك وزير!
م: فردريك لاگرنج باشا، وزير المعارف!
حلقة اليوم عن الشيخ زكريّا أحمد.
ف: من حسن حظّنا أنّ حياة الشيخ زكريّا أحمد موثّقة، ثمّ مصادر، خلاف الملحّنين الذين بدأوا في نهاية القرن التاسع عشر مثل داود حسني.
داود حسني ليس من جيل زكريّا أحمد لكن المعلومات عن داود حسني أو إبراهيم القبّاني شحيحةٌ إلى حدٍّ ما.
بالنسبة لزكريّا أحمد، ثمّة مصادر.
م: لكن، رغم المصادر، ثمّة أساطير
ف: طبعاً، عندما تتوفّر المعلومات، لا بدّ أن يتخلّلها جزءٌ أسطوريّ.
أوّلاً: كتاب السبعة الكبار في الموسيقى العربيّة لڤكتور سحّاب، كرّس قسماً من الكتاب للزكريّا أحمد، في هذا القسم يجمع تقريباً المصادر السابقة عليه، منها كتاب صبري أبو المجد، منها كتاب نعمات أحمد فؤاد عن أمّ كلثوم، منها محمود كامل، منها الأحاديث الإذاعيّة التي أجراها الشيخ سيّد مكّاوي عن الشيخ زكريّا أحمد.
من كلّ هذا نصبح على درايةٍ كافيةٍ عن:
تكوينه المهنيّ، نعرف أنّ والده: أحمد صقر من الفيّوم ثمّ انتقل إلى القاهرة، نعرف أنّ زكريّا أحمد وُلِد في القاهرة سنة 1896، نعرف أنّه كان، إلى حدٍّ ما، فاشلاً في دراسته. التحق بالأزهر ولم يكمل فيه.
لقب “الشيخ” عند زكريّا أحمد مثل غيره من مجايليه، معناه فقط أنّه درس في الأزهر لفترةٍ ما دون أن يحصل على شهادة.
م: شهادة العالميّة.
ف: بالضبط ومعناه أنّه اتّجه للغناء الدينيّ بعد أن طُرد من كلّ المدارس التي ألحقه بها أبوه تقريباً.
اشتغل منشداً، كان مهووساً بالغناء، سواء كان دينيّاً أو دنيويّاً. الظاهر أنّه تتلمذ على الشيخ درويش الحريري.
كلّما نقرأ في المصادر أنّ الشيخ درويش الحريري كان المرجع الأوحد في الأناشيد والموشّحات، يستغرب المرء هذه المعلومة عندما يستمع تسجيلات مؤتمر القاهرة (1932) لأنّ أقلّ ما يُقال عن هذه التسجيلات أنّها غير مُطرِبة! لا أعرف ما رأيك فيها.
م: درويش الحريري صندوق معلومات، صندوق موشّحات! حفظ فعلاً ما كان نُسِي في زمانه، أو ما كان أوشك على النسيان، ويبدو أنّه يحفظ أكثر ممّا سجّل بكثيرٍ في المؤتمر، لكن صوتاً، يُسمع للحفظ. أعتقد أنّ تسجيلات درويش الحريري في المؤتمر فعلاً للغرض الذي سُجّلَت له.
ف: الذي هو الغرض التعليميّ.
م: حفظ المادّة والتدوين.
ف: يبدو أنّه تتلمذ على درويش الحريري وتتلمذ على غيره من أصحاب الأصوات العظيمة، تتلمذ على الشيخ إسماعيل سكّر، وكان عضواً في بطانة الشيخ علي محمود. فأكيد أنه أخذ منهما أشياء كثيرة
م: في عزّ شهرة الشيخ زكريّا، استمرّ في بطانة الشيخ علي محمود. في آخر تسجيلات الشيخ علي محمود سنة 1944، آخر التسجيلات الموجودة عندنا، الله أعلم، قد تظهر تسجيلات جديدة، في هذه التسجيلات التي بحوزتنا سنة 1944, صوت الشيخ زكريّا واضحٌ جدّاً في بطانة الشيخ علي.
(جزءٌ من التعطيرة الشريفة من المشهد الحسينيّ بالقاهرة، مقام حجاز، يبرز فيه الشيخ زكريّا أحمد).
ف: الظاهر أنّ تكوينه المهنيّ كان في عالم الإنشاد، حفظ الكثير من الأناشيد، من التواشيح التي كانت تؤدّى في كلّ المناسبات الدينيّة. لا يمنع هذا أنّه اتّجه إلى الغناء الدنيويّ.
أريد قراءة فقرةً قصيرةً وردَت في كتاب ڤكتور سحّاب، أريد رأيك فيها: ص96:
“وقد أخذ مع الوقت يُعرض عن الغناء الدينيّ ويقبل على الطرب والموسيقى، حتّى يئس الشيخ درويش الحريري من تحفيظه القرآن، فحفّظه آياتٍ معلومةً تُناسب احتفالاتٍ بعينها. كانت رغبته تدفعه إلى اتّجاهٍ آخر، حتّى سعى إلى محمّد القصبجي ليتعلّم ضرب العود عليه“.
ثمّ أمران هنا: أنّ الشيخ زكرّيا أحمد تعلّم العود على القصبجي.
م: نبدأ بمسألة “أعرض عن الغناء الدينيّ“: في لقاءٍ متلفزٍ مع عبد اللطيف أفندي البنّا، يقول أنّه أوّل ما نزل مصر من وجه بحري، عمل بطانةً وكان فيها الشيخ زكريّا أحمد. نمشي بعض وقت، نجد أنّه في نفس الفترة التي كان يلحّن فيها “ارخِي الستارة الّي في ريحنا” كان يُلحّن تواشيح لمشايخ مع بيضافون وپوليفون.
نمشي بالوقت ثانيةً، نجده مع كولومبيا حين بدأ التسجيل الكهربائيّ، كذلك هِز ماسترز، His Master’s Voice, HMV) لحّن تواشيح لمشايخ، مثل “يا آل نجد” غنّآه علي الحارس، هو لحنه أي الشيخ زكريّا، مع الأسف، لم يبقَ منه سوى جزءٌ على ألسن بعض المشايخ. ثمّ لحّن تواشيح لإبراهيم الفرّان، حتّى محمّد حسن النادي، أقصد أنّه على مدار رحلته لم يُعرِض عن الغناء الدينيّ إطلاقاً.
أمّا مسألة العود، ليس عندي تاريخيّاً ما ينفي هذه المعلومة، لكن من طريقة عزفه على العود، أكاد أستبعد أنّه درس على يد القصبجي.
ف: هل من تسجيلات عود لزكريّا أحمد؟
م: يصاحب نفسه في الغناء على عوده وفي الجلسات الخاصّة أحياناً نسمع جملة تقسيمٍ أو جملتين.
“تقسيم عود للشيخ زكريّا أحمد في منزله عام 1959 مقام راست“.
ف: أريد الرجوع لموضوع هذه القطيعة المفترضة بين الغناء الدينيّ والغناء الدنيويّ: في بداية القرن العشرين، لا أحسب أن كانت أيّ قطيعة
م: هذه قصّةٌ أُخرى: أنّ الموسيقى، موسيقى! دينيّ دنيويّ، لا فرق، في النفس الحملة، بل نفس اليوم، نفس جلسة التسجيل التي سجّل فيها الشيخ علي الحارث “عهد الأخوّة” و“مليكي أنا عبدك“، سجّل “دع يا عذولي” و“يا آل نجد” وغيره.
ف: بالضبط، لكن ثمّ ملاحظة، أنّ الانتقال في اتّجاهٍ واحد، أقصد أنّ من تكوّنوا على الإنشاد، يمكن أن ينتقلوا إلى الغناء الدنيويّ ويعودون إلى الإنشاد الدينيّ، أمّا…
م: صحّ! المشايخ يمكن أن يصبحوا أفنديّة أمّا الأفنديّة يصعب أن يكونوا مشايخ.
ف: بالضبط، هذا هو، من لبس العمامة يستطيع استبدال طربوشٍ بها أمّا من لبس الطربوش فلا يمكنه استبدال عمامةٍ به.
م: ملاحظةٌ في مكانها تماماً.
ف: نستطيع القول أنّ زكريّا أحمد في فترة العشرينات، إلى حدٍّ ما ، ذو وجهين، يمكن أن يُنشد أو يلحّن للمنشدين، وفي نفس الوقت يلحّن لعبد اللطيف البنّا على كلمات يونس القاضي، وثلاثتهم يُفترض أنّهم مشايخ، رغم هذا سينتجون أخلع الطقاطيق التي لُحِّنَت فترة العشرينات. وأريد القول أنّنا لا يجب أن نُبقي على هذه النظرة الدونيّة لطقاطيق العشرينات، هذه النظرة التي شاعت في الخمسينات والستّينات حتّى أمّ كلثوم كانت تسخر من “ارخي الستارة الّي في ريحنا” كأنّها لم تغنّي من هذه الألحان! فشخصيّةٌ مثل أمّ كلثوم التي تعلم تمام العلم أنّه بجانب هذه الطقاطيق الخليعة نفس مطرب الطقاطيق هذه ونفس الملحّن ونفس كاتب الكلمات، يمكنهم إنتاج قصيدةً أو دوراً أو أيّ قطعةٍ من قطع الغناء الفصيح الراقي.
م: يا أستاذ هكذا أراد عصرها وهكذا أرادت صحافة الخمسينات والستّينات! مشّي حالك!
ف: لو تكلَّمنا على طقاطيق الشيخ زكريّا أحمد في العشرينات: أوّلاً الأصوات عظيمة، نحن بصدد صوت مثل صالح عبد الحيّ أو أمين حسنين، أو عبد اللطيف البنّا، والأصوات النسائيّة: رتيبة أحمد وأحسن منها، رغم براعتها وعظمتها.
م: فتحيّة.
ف: لكن فتحيّة ليس لها في الخليع، أمّا منيرة “يقصد منيرة المهديّة” لها في الخليع وأُخرى أُكنّ لها إعجاباً شديداً، نعيمة المصريّة، أرى أنّ صوت نعيمة المصريّة من أجمل الأصوات النسائيّة في بداية القرن العشرين. إحدى هذه الطقاطيق التي اشتُهِرَت أنّها ترمز لعصر الخلاعة “تعالَ يا شاطر نروح القناطر“، من يسمع هذه الطقطوقة يكتشف بها جمالاً فريداً!
أوّلاً: اللحن مطربٌ للغاية.
ثانياً على صعيد الكلام: تعالَ يا شاطر نروح القناطر، بها تناقدٌ، أدّعي أنّه تناقدٌ مقصودٌ بين اللحن البيّاتي الحزين والمضمون الخليع للكلمات! لماذا مقصود؟ لأنّ اللحن لحنٌ حزين، والكلام يحثّ على الخلاعة، كأنّ الملحِّن يريد إشعار المستمع أنّ الفتاة التي تتكلّم التي تجسّدها نعيمة المصريّة، لا تصدّق أبداً ما تقول، وأنّ ثمّ رسالةً وراء اللحن تنفي وتناقد مضمون الكلام في الأغنية، أنّها على علمٍ أنّها مضطرّةٌ لقول هذا الكلام، لكنّها تُشعر المستمع عبر اللحن أنّها لا تصدّق حرفاً واحداً ممّا تغنّي.
هذا تحليلي ل“تعالَ يا شاطر” تعالَ يا شاطر نروح القناطر، لا هي تريد الذهاب للقناطر ولا تريد لقاء الشاطر من الأصل، إنّما كأنّها تقول، دعوني وشأني. مالي والقناطر؟ وكمذلك سأشرب وعملٌ في الليل! وسأعرق في القناطر! لا أريد العرق في القناطر!
صوتها وهي تغنّي، واللحن، جميلٌ جدّاً في إشعار المستمع أنّ كلّ هذا مصطنع.
م: نستمع إلى “تعالَ يا شاطر“.
“تعالَ يا شاطر، يونس القاضي، زكريّا أحمد، نعيمة المصريّة، نغم دوگاه مقام بيّاتي أسطوانات پوليفون، 1924 تقريباً“.
م: سمعنا كلّ الأغنية لم نجد “جمال فريد” هذا! حاولتُ البحث عنه في كلّ الأسطوانة، لم أجده!!!
ف ضاحكاً: معقولة؟ ألم تسمع “جمال فريد“؟
طقاطيق الشيخ زكريّا لعبد اللطيف البنّا أيضاً رائعة، “أرخي الستارة” لمنيرة: “ما تخفشِ عليّ، لكن ثمّ ظاهرةٌ جميلةٌ جدّاً في العشرينات، ألا وهي حرب أصحاب الطربوش وأصحاب العمّة في الأغنية، وفي الطقطوقة بالذات. مشهدٌ متكرّرٌ نجده في كذا أغنية، مشهد “الفقي الفاسد، الفقي بمعنى الفقيه، رجل الدين الفاسد. التنديد بالنفاق المزعوم المنسوب لهؤلاء. ضمن هذه الأغاني التي نجحت في وقتها جدّاً، وانتُقِدَتْ وتسبّبت في حملةٍ عليها: “لابس جبّة وقفطان” صاحب كلمات هذه الأغنية، يونس القاضي، لاحقاً، عُيِّنَ الشيخ يونس القاضي هذا أوّل رقيبٍ على المصنّفات الفنّيّة في مصر، رُبّما جاء هذا التعيين لإسكاته، فقد كان صاحب كلام أخلع الأغاني ومع ذلك هو مَن عُيِّن على رأس هيئة الرقابة على المصنّفات الفنّيّة.
م: وصادر نفسه.
ف: لا أدري إن كان صادر نفسه، كانت الأسطوانات بيعَتْ وموجودةٌ في السوق فعلاً، لكن لا بدّ أن يسكت وينتهي عن كتابة هذا النوع من الكلام. كذلك هذه الصرعة “المودا” لهذا النوع من الكلام كانت أوشكت على الانتهاء.
تصوّر أغنية “لابس جبّة وقفطان” شيخاً في ميدان العتبة الخضرا،
م: واقف يشقط!
ف: بالضبت، يتحدّث الفرنسيّة مكسّرةً وإذا رأى سيّدةً من الإفرنج يقول “بُنْجُور، ويعمل غندور” ويقول “الامود ومِرسِي وپَردُون“! أشياء كتلك!.
الأغنية في منتهى اللذّة، بجانب كونها أغنيةً مضحكة “كوميديّة” وخفيفةً، تعكس هذه الصراعات الفكريّة فترة العشرينات.
هيّا نسمعها.
“لابس جبّة وقفطان، يونس القاضي، زكريّا أحمد، صالح عبد الحيّ، نغم راست، بيضافون، حوالي 1925″.
م: نسمع أيضاً، ليس بصوت صالح عبد الحيّ، بل الشيخ زكريّا نفسه: “آدي وقت البرنيطة” عكس الأولى.
ف: تُدين التفرنج، يضرب مرّةً على أصحاب البرانيط، وأخرى على أصحاب العمائم، وثالثةً على أصحاب الطرابيش.
“آدي وقت البرنيطة، بديع خيري، زكريّا أحمد، زكريّا أحمد، نغم راست ضرب دارج، هوموكُرد، 1926“.
قدّمت لكم مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة:
من التاريخ.
فكرة وإعداد:
مصطفى سعيد.
الحلقات الأخيرة
- 221 – زكريّا أحمد – 12 (1/9/2022)
- 220 – زكريّا أحمد – 11 (1/9/2022)
- 219 – زكريّا أحمد – 10 (11/25/2021)
- 218 – زكريّا أحمد – 9 (10/26/2021)
- 217 – زكريّا أحمد – 8 (9/24/2021)
- 216 – زكريّا أحمد – 7 (9/4/2021)
- 215 – زكريّا أحمد – 6 (8/28/2021)
- 214 – زكريّا أحمد – 5 (8/6/2021)
- 213 – زكريّا أحمد – 4 (6/26/2021)
- 212 – زكريّا أحمد – 3 (5/27/2021)
- 211 – زكريّا أحمد – 2 (5/1/2021)
- 210 – زكريّا أحمد – 1 (4/28/2021)
- 209 – والله لا أستطيع صدك 2 (4/6/2017)
- 208 – والله لا أستطيع صدك 1 (3/30/2017)
- 207 – بشرف قره بطك 7 (3/23/2017)