هو قالبٌ ارتبط بالإنشاد الدينيّ والصوفيّ الإسلاميّ، على أنّه ليس بالضرورة كذلك، وهذا ما يُفصّل خلال حلقتنا اليوم.
هناك خلطٌ عند الكثيرين بين التوشيح والموشّح، وعلى الرغم من كونهما في الكثير من الكتب الأدبيّة وحتّى الموسيقيّة تسميةٌ لشكلٍ واحد، إلا أنّ الممارسين الموسيقيّين يعلمون أنّ اللفظتين ليستا دالّتين على نفس الشكل، أقلّه في الموسيقى.
التوشيح هو عماد الوصلة الإنشاديّة، وهو مقابل الدور في وصلة المقام العربيّ، على أنّ الدور به أجزاءٌ جماعيّةٌ وأجزاءٌ فرديّة، أمّا التوشيح، فإنشاده بالكامل للبطانة، أي مجموعة المنشدين، ودور المنشد المنفرد هو ملء فراغات النقلات النغميّة وهو ما نفصّله لاحقاً خلال الحلقة، يأتي التوشيح في وصلة الإنشاد بعد المولد والردّ والابتهال، وقبل الدارج، فالدارج ختام الوصلة، والتوشيح قالبٌ سائرٌ دون رجوع، أي أنّه لا عودة فيه للازمةٍ أو تسليمٍ أو مذهب، فكلّ جملةٍ تكمل سابقتها، وهو دائم الاعتماد على القفلات الجزءيّة، وولفهم القفلات الجزءيّة، لا بدّ للعودة إلى أحد أهمّ روافد الإنشاد التي أفاد منها اقالب التوشيح في مراحل تكوينه، وهو الذِكر، فلنستمع إلى الشيخ علي القصبجي، وهو منشدٌ شهيرٌ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نستمع إليه في تسجيل ذِكر سُجّل لبيضافون قبل الحرب العالميّة الأولى، حوالي عام 1912، نستمع إليه في أودعت قلبي، وهو ذِكرٌ على وجهٍ واحدٍ قياس 27سم، ونلاحظ البطانة وهم ينشدون جماعيّاً :لا إله إلا الله” مثلاً، وكيف ينشد شخصٌ أو شخصانِ أو ثلاثة لحناً ثابتاً على ذات المقام، ويخرج منه أحياناً، وكيف يفرّد المنشد المنفرد أحياناً قليلةً خارج اللحن الثابت مُعتمداً على القفلات الجزءيّة لهذا اللحن الثابت، الذي هو مرتكزٌ على اللحن المستمر للبطانة القرار.
بما أنّ التوشيح قالبٌ لا رجوع فيه، كما سبق وذكرنا، فإنّ استعراض المقام فيه يتمّ بنفس طريقة استعراض المقام في القوالب المرتجلة، كالتقسيم والموّال، إلخ، وعليه، فإن التوشيح يبدأ من أصل المقام أو جذعه، نزولاً لقراره، أي جذر المقام، ثمّ يتدرّج في الصعود إلى الفرع، ثمّ الذروة، ويعود في آخره للقفلة على أصل المقام، وخلال هذا الاستعراض للمقام، تكون هناك قفلات قليلها تامٌّ، أي على أصل المقام ومقرّه، ووأغلبها جزءيٌّ أي على غمّازٍ ما للمقام، أو درجة ركوزٍ ما داخل المقام، وأحياناً، وليس في كلّ التواشيح، تكون هناك بعض قفلاتٍ على ذروة المقام، أي مقرّه لكن من الجواب، أي الديوان الأعلى، وكنموذجٍ لاستعراض المقام بالطريقة المذكورة، نستمع إلى توشيح “مولاي كتبت رحمة الناس عليك” وهو من مقام السكاه، وفي قفلته الأولى يقفل على مقرّ النغمة، ثمّ في الثانية على ثالثة المقام، مع احتمال قفلةٍ جزءيّة في منتصف الجملة الثانية، لو شاء المنشد المُفرِّد، على ثالثة ذروة المقام، أي عاشرة المقرّ، ثمّ قفلةٌ على ذروة المقام في ثالث بيتٍ، وقفلةٍ نهاءيّةٍ للتوشيح على مقرّ المقام في رابع وآخر بيت.
نستمع إليه بصيغةٍ مُختصرةٍ من الشيخ عبّاس حسنين وبطانته، حيث يقلّ تفريده، لكن يبيّن تفصيل القفلات النصفيّة، أو الجزءيّة، في منتصف البيت وآخره، التسجيل على وجهٍ واحدٍ قياس 27سم، أواخر عام 1923 لشركة باتيه رقم 35. 15، مصفوفة 18.359
لم تُصغ التواشيح فقط للأغراض الدينيّة، وما سنستمع إليه الآن هو أحد دلالات هذا، وليس كلّها، قصيدة مال واحتجب، والذي نظمها أحمد شوقي بيه والمعروفة بطابعها الغزليّ، لُحّنت وأنشدها الشيخ مُحرز سليمان وبطانته، بل وسجّلها، واعتبرها البعض أنّه استغلّ شعر الغزل لأغراضٍ صوفيّة، أو أنّ شوقي بيه كتبها كما كتب الشعراء المتصوّفة كبن الفارض والشبراويّ، كلاماً ظاهره الغزل ومعانيه الصوفيّة مبطّنةٌ داخل الشعر، وإن كان في هذا شيءٌ من الصحّة، لكن باعتبار تقلّب أحوال الناس، كتب شوقي في الغزل والمديح والشعر الدينيّ المباشر، سيظلّ سرّ اختيار الشيخ محرز لهذه القصيدة غامضاً، نستمع على كلّ حالٍ لهذا التسجيل، وهو من مقام الصبا، على وجهٍ واحدً قياس 27سم، لشركة بيضافون رقم B-085236 حوالي عام 1925
كما سبق الذكر، دور المؤدّي المنفرد داخل التوشيح لا يتعدّى دور أيّ فردٍ في البطانة، بل يحرص المنشد المنفرد دائماً أن يكون هكذا، حتّى لا يختلّ أداء التوشيح، لكنّ دوره حقيقةً هو التفريد، والتفريد هو الارتجال أثناء التوشيح بعددٍ من الطرق، أوّلها الترنّم، كالآهات، أي عدم استخدام أيّ كلام، إنّما استعمال الصوت كالآلة الموسيقيّة لإعطاء نغمٍ لا كلام فيه، والثانية هو الارتجال على كلامٍ من داخل النصّ، والثالثة هو استخدام نصٍّ خارج نصّ التوشيح، وعلى الأغلب يرتبط هذا النوع الأخير بمناسبةٍ ما وهذا ما نُبرزه لاحقاً، أمّا الطريقتين الأولتين، فهما ما نستمع إليه في توشيح “دع يا عذولي”، وتوشيح “حِرامٌ عليّ سلوّ الملاح” الذي أنشدهما الشيخ علي الحارث بشكلٍ مترابطٍ على وجهي اسطوانة قياس 25سم تحميض على الكهرباء لشركة هِز ماسترز فوييس، حوالي عام 1928 رقم 18-212680 18-212681، مصفوفة BT 3895 BT 3896، مقام راست، ونلاحظ استخدامه للترنّم بالآهات في كامل الوجه الأوّل وفي الوجه الثاني، توشيح “حرامٌ عليّ سلوّ الملاح”، يفرّد الشيخ علي الحارث على كلام التوشيح نفسه، ونلاحظ أيضاً التزامه بالوحدة أحياناً وخروجه وتفليته إيّاها ليفرّد بشكلٍ مُرسلٍ أحياناً أخرى، دون أيّ التزامٍ أو تقنينٍ لآليّةٍ أو تراتبيّة لهذا التقلّب في طريقة التفريد. يُذكر أنّ نصّ توشيح دع يا عذولي تمّ تلحينه كموشّحٍ من مقام الحجاز في تراث الغناء الدنيويّ، وذكره محمّد شهاب الدين في سفينته في وصلة الحجاز، وله تسجيلٌ أيضاً بصوت بدريّة سعادة، لكن نستمع إليه في صيغة توشيح من الشيخ علي الحارث.
تقليديّاً، يؤدّى التوشيح دون ألاتٍ بالمرّة، ويقصر أداءه على مجموعة المنشدين، والمنشد المنفرد، على أنّ هذا الأمر قد تغيّر، أو لعلّه كان موجوداً من الأصل، وهذا ما سنورده في حلقتنا القادمة عن التوشيح، لكن نختم حلقتنا اليوم بتوشيحٍ نادرٍ نصّه مدحٌ للملك فؤاد الأوّل ملك مصر والسودان منذ نُصّب سلطاناً بعد وفاة سلفه السلطان حسين كامل عام 1917، ثمّ تحويل اللقب من سلطانٍ إلى ملك عام 1922 واستمرّ حتّى وفاته عام 1936، وهذا التوشيح إثباتٌ آخر أنّ التواشيح لم تُصغ فقط للأغراض الدينيّة، التسجيل لشركة بيضافون بصوت الشيخ إسماعيل سكّر وبطانته حوالي عام 1925 رقم B-085318 مقام بيّاتي، ومع الشيخ إسماعيل في توشيح لجلالة الملك فؤاد، نكون قد وصلنا إلى نهاية حلقة اليوم من برنامج دروب النغم، على أمل اللقاء بكم في حلقةٍ جديدةٍ نواصل فيها الحديث عن التوشيح، نترككم في الأمان.
الحلقات الأخيرة
- 221 – زكريّا أحمد – 12 (1/9/2022)
- 220 – زكريّا أحمد – 11 (1/9/2022)
- 219 – زكريّا أحمد – 10 (11/25/2021)
- 218 – زكريّا أحمد – 9 (10/26/2021)
- 217 – زكريّا أحمد – 8 (9/24/2021)
- 216 – زكريّا أحمد – 7 (9/4/2021)
- 215 – زكريّا أحمد – 6 (8/28/2021)
- 214 – زكريّا أحمد – 5 (8/6/2021)
- 213 – زكريّا أحمد – 4 (6/26/2021)
- 212 – زكريّا أحمد – 3 (5/27/2021)
- 211 – زكريّا أحمد – 2 (5/1/2021)
- 210 – زكريّا أحمد – 1 (4/28/2021)
- 209 – والله لا أستطيع صدك 2 (4/6/2017)
- 208 – والله لا أستطيع صدك 1 (3/30/2017)
- 207 – بشرف قره بطك 7 (3/23/2017)