قصيدة وحقّك أنت المنى والطلب
نَظم الشيخ عبد الله الشَبراوي من بحر المتقارب
سُجِّلَت لأوّل مرّة بصوت الشيخ أبو العِلا محمّد لشركة مشيان الوطنية قبل عام 1914
وأَنتَ المُرادُ وأَنتَ الأَرَبْ تحَيَّرَ في وَصفِها كُلُّ صَبّْ إِذا لاحَ لي في الدُّجى أَو غَرَبْ إِذا نَمَّ يا مُنيَتي أو عَتَبْ إليكَ بِذُلِّ الغَرامِ انتَسَبْ بِحَقِّكَ قُلْ لي لِهذا سَبَبْ ويا سَيّدي أَنتَ أهلُ الحَسَبْ رِضاك ويَذهَبُ هذا الغَضَبْ وَحَقِّكَ يا سَيِّدِي قَدْ كّذَب ولكِنَّ حُبَّكَ شيءٌ عَجَبْ ويَهْجُرَ صَبًّا لَهُ قَد أَحَبْ فَيأخذُني عِندَ ذاكَ الطَّرَب ولِينُ الكلامِ وفرطُ الأدَبْ الكَريمُ الجُدودِ العَريقُ النَّسَبْ وأَودَعَ في اللَحظِ بِنتَ العِنَبْ ولكِنْ سَقاهُ بِماءِ اللَّهَبْ وَما لي سِواكَ مَليحٌ يُحَبْ |
وَحَقِّكَ أنتَ المُنى والطَّلَبْ وَلي فيكَ يا هاجِري صَبْوَةٌ أَبِيتُ أُسامِرُ نَجْمَ السَّما وَأُعْرِضُ عَنْ عاذِلي في هَواكَ أَمَولايَ بِالله رِفقًا بِمَنْ ويا هاجِري بعدَ ذاكَ الرِّضا فإِنّي حَسيبُكَ مِن ذا الجَفا مَتى يا جَميلَ المُحيّا أَرى أَتاكَ العَذُولُ بِأَنِّي سَلَوْتُ فإِنّي مُحِبٌّ كما قد عَهِدْتَ ومِثلُكَ ما يَنبَغي أَن يَصُدَّ أُشاهِدُ فيكَ الجَمالَ البَديعَ ويُعجِبُني مِنكَ حُسنُ القَوامِ وَحَسْبُكَ أَنَّك أَنت المَليحُ أَمْا والَّذي زانَ مِنكَ الجَبينَ وأَنبَتَ في الخَدِّ رَوضَ الجَمالِ لَئِنْ جُدْتَ أو جُرتَ أَنتَ المُرادُ |
مقارنة بين تسجيلين للشيخ أبو العلا محمّد أوّلهما لشركة مشيان على وجهين قياس 27 سم قبل عام 1914 كما سبق الذكر، ويحمل هذا التسجيل مصفوفة رقم 393-1-2 والتسجيل الثاني لشركة بيضافون حوالي سنة 1921 كذلك على وجهين من نفس القياس ويحمل رقم b-082259 b-082260
كما نتَعَرِّض في هذه الحلقة لتسجيلين آخرين أحدهما لأمّ كلثوم إبراهيم مسجّل لشركة جراموفون هِز ماسترز فويس حوالي عام 1927 على وجهين قياس 25 سم مصنّف رقم 7-13571 7-13570 مصفوفة رقم BF 1165 BF 1166
أمّا التسجيل الأخير فهو للموسيقيّ صليبا القطريب ويفصله عن سابقه ما لا يقلّ عن 40 سنة من حفلٍ عام في لبنان .
والآن إلى التحليل!
قصيدة “وحقك أنت المنى والطلب”: وذلك بصرف النظر عن روعتها على الصعيد الشعري وعلى الصعيد اللحني وعلى صعيد الأداء هي مادة خصبة للتطرق إلى إشكاليتين أساسيتين تواجهنا دائمًا عندما نستمع إلى التسجيلات القديمة على أسطوانات 78 دورة. أولًا: مسألة أزلية هي مسألة الثابت والمتحول، ما هي حدود الارتجال؟ ما هي حدود التلحين في أداء القصيدة ؟
هذه مسألة قد بُتّ فيها إلى حد ما بالنسبة للدور لأن بحوزتنا الكثير من التسجيلات. أما بالنسبة للقصيدة فمن المعروف إنها تكون في معظم الحالات، وفي الأسطوانات التي قبل الحرب العالمية الأولى، خاصة بمطرب معين أو مرتبطة باسم مطرب واحد. قد يقوم أكثر من شخص بغناء النص الشعري ولكن لكل واحد الصيغة الخاصة به. بعد الحرب العالمية الأولى تغيرت الأمور تمامًا كما سنراه بالذات مع مثال “وحقك أنت المنى والطلب”. وهناك معضلة ثانية صعبة وهي إلى أي مدى تعكس هذه التسجيلات حقيقة المراس الموسيقي؟ ما هي علاقة هذه الأسطوانات بواقع الحفلات سواء كانت خاصة أو عامة ؟ كل هذه التسجيلات (التسجيلات على الوحدة) هي ذات وجهين وتترواح مدتها بين 6-9 دقائق ؛ إذا كانت القصيدة تحل محل الدور في الوصلة الثالثة والأخيرة للمطرب، كما تؤكد المصادر القديمة ككتاب “كامل الخلعي”، وكل هذه المصادر التي تتحدث عن الحياة الموسيقية وطريقة تقديم الحفلة الوصلة، فمن المستحيل أن يؤدي المطرب هذه القصيدة خلال 6 او 9 دقائق في آخر الوصلة (الوصلة الأخيرة). لا بد أن تكون مدة الوصلة ساعة على الأقل بما في ذلك الموشح والموال، ولكن إذا كانت القصيدة على الوحدة بمثابة الدور في الوصلة الثالثة فلا بد أن تكون مدة الأداء مطابقة لمدة أداء الدور فلنقل مثلا: نصف أو ثلث ساعة على الأقل. منطقيا كانت القصيدة على الوحدة تأخذ ثلث إلى نصف ساعة في الحفلات والتسجيلات التي بحوزتنا لا تتعدى 6-8 دقائق، وهذا بالنسبة إلى أسطوانات 30سم مثلا كأسطوانات الشيخ يوسف المنيلاوي تمامًا. ملاحظة ثانية: نحن نعرف أن الدور يمكن تسجيله على وجه واحد وهذه حالة شاذة أو على وجهين وهذا طبيعي او على ثلاثة أوجه او على أسطوانتين كاملتين، وهناك أيضًا حالة شاذة لم نعثر عليها وهي أدوار مسجلة على خمسة أوجه، أما بالنسبة إلى القصيدة فلم نحصل أبدًا على مثال لقصيدة مسجلة على أكثر من وجهين إلا تسجيل فريد لعبد الحي حلمي وهو يغني قصيدة “أراك عصي الدمع” وهذا موضوع آخر. أما المعتاد فهو أن تكون القصيدة على وجهين ؛ هذان الوجهان ماذا يمثلان؟
ما علاقة هذين الوجهين بالقصيدة كما كانت تغنى في الحفلات؟
كيف كان المطرب يتعامل مع هذه المادة الكلامية من جهة والمادة اللحنية من جهة أخرى إن افترضنا أن هناك مادة لحنية وأن القصيدة سابقة التلحين أو محضرة على الأقل؟
هل كانت هناك إعادات أثناء الحفلات؟ هل كانت هناك إرتجالات ؟
ما هي طبيعة هذه الإرتجالات؟ هل هي مجرد إرتجالات زخرفية ؟
هل هي إرتجالات تقوم على تطوير جملة دون الإتيان بجمل مختلفة تمامًا من مقام آخر على سبيل المثال؟
هل هي إرتجالات مبدعة تلحينية؟ هل هي إضافات؟ هل هي تغييرات في المسار اللحني.؟
الله أعلم، لا نعرف عن هذه الحفلات شيئا. أظن أن قصيدة “وحقك أنت المنى والطلب” تأتي لنا بخير مثال على مجموعة الأسئلة التي لا بد من أن نطرحها ولكن دون أن نسطيع الإجابة عنها بشكل قطعي.
نعود إذا إلى هذه القصيدة المعروفة جدا، أو على الأقل مشهورة عند الهواة. أظن أن الكثير من المستمعين سبق أن استمعوا لصيغة أم كلثوم الشهيرة لهذه القصيدة، ولكن حتى عشاق أم كلثوم في الغالب يعرفون أن صاحب اللحن الذي تتغنى به أم كلثوم هو أحد أساتذتها وهو الشيخ أبو العلا محمد. أول تسجيل نعرفه لهذه القصيدة على خلاف ما قد يظنه البعض لأنه يختلف جذريًا عن اللحن الذي نعرفه ونحفظه، فعندما ندقق في رقم المصفوفة والأسطوانة للتسجيل الأول لا بد من أن يكون تسجيل مشيان، تسجيل مشيان لماذا ؟ لأن الشيخ أبو العلا محمد سجل عددا من الأسطوانات لشركة “غراموفون” سنة 1912 ولكن لم ترد هذه القصيدة ضمن القطع التي سجلها – إلا إذا سجلت ك”بروفة” (أي تجربة) إن كانت كذلك فهي مفقودة – فلنبعد هذه الفرضية ونعود إلى الوثائق المتوفرة أي أسطوانة شركة “مشيان” بصوت الشيخ أبو العلا محمد لقصيدة “وحقك أنت المنى والطلب” ودون الدخول في التفاصيل أقترح عليك أن نستمع إلى بدايتها فقط وبعد ذلك نستمع إلى القصيدة كاملة.
المعضلة الكبيرة لكل من استمع لهذه البداية لمن يعرف المقامات أن مقام هذه القصيدة ليس “السيكاه” كما هو المعتاد ولكن البياتي: هذه المفاجئة الأولى، فقد يتخيل المرء أن الشيخ أبو العلا محمد أراد أن يستعرض عضلاته وأراد ربما أن يبهر السامعين بأن يخرج عن اللحن المعتاد ويأتي بلحن بياتي مرتجل. لا بد من أن نبعد هذه الفرضية، لماذا ؟ لأن التواريخ تؤكد أن التسجيل سبق الصيغة الشهيرة والشائعة، فبالتالي المسودة الأولى لهذه القصيدة هي هذه الصيغة من مقام “البياتي” الجميلة للغاية والمؤثرة إلى أقصى درجة والتي يتبدى للمستمع أنها إن لم تكن مرتجلة كليًا فجزء الإرتجال مسيطر تمامًا.
لماذا لم تشتهر هذه القصيدة (بهذه الصيغة)؟
ربما هناك سوء تقنية، السبب الذي يتبادر إلى الذهن هو رداءة التسجيل لأن هذه الأسطوانة هي من أسطوانات “مشيان” ونعرف أن الخواجة “مشيان” أرمني الأصل مصري المولد والثقافة، كان يعمل لوحده في محله وأن أسطواناته كانت أسطوانات الرجل الواحد فهو الذي يقوم بتسجيل وطبع وتسويق الأسطوانة، فما كان يقوم به ينجزه فريق كامل عند الشركات المحترمة الأخرى. هذا لا يعني أن الخواجة “مشيان” لم يكن محترما هذا فقط يعني أن أسطواناته قد تكون ذات جودة فنية ولكن على الصعيد التقني هي أسطوانات صعبة إلى حد ما.
بعدها بست سنوات تقريبًا عاد أبو العلا محمد وسجل هذه القصيدة (النص الشعري نفسه) ولكن هذه المرة لصالح شركة “بيضافون” الشركة الوطنية المعروفة وهذه المرة في مقام “السيكاه”. لا أدري إن كنت ستوافقني على ذلك، أشعر عندما أستمع لهذا التسجيل أن اللحن في حالة وسطى بين التحضير والإرتجال وواضح أن القصيدة ليست محفوظة من قبل الشيخ أبو العلا محمد. في أدائه سلاسة شئ يوحي بالطبيعية وبالإلهام وهو ينزل عليه، قد يكون هناك شئ من التحضير ولكن الكثير من الحركات في هذه القصيدة التي نعتبرها حاليُا حركات إلزامية عند من يريد أن يقلد أم كلثوم والشيخ أبو العلا محمد في أداء هذه القصيدة. هذه الحركات والجمل اللحنية وليدة اللحظة فقط، مثلا: أقترح أن نستمع إلى جملة “متى يا جميل المحيى أرى رضاك” يبدو لي واضحا أن الإعادة هنا من باب الإرتجال الزخرفي، ولا أظن أن الشيخ أبو العلا محمد لحن جملتين مختلفتين لحنيا يقول فيهما “متى يا جميل المحيى أرى رضاك” على العكس أرى أنه يرتجل ويزخرف المسيرة اللحنية التي بدأ بها أول مرة ويضيف عليها. عندما نستمع بدقة إلى المصاحبة الآلية في هذا التسجيل: سامي الشوا على الكمان والقضابي على القانون وهما يترجمان ما يقوله الشيخ أبو العلا واللوازم التي يأتيان بها يبدو واضحا أنهما يتبعانه ولا يسبقانه.
الغريب أن الأسطوانة غيرت مجرى تاريخ الموسيقى العربية وغيرت كل شئ في الساحة الموسيقية لأنه في سنة 1927 سجلت تلميذة أبو العلا محمد لشركة “غراموفون” قصيدة “وحقك أنت المنى والطلب”، وما تقوله أم كلثوم في هذه الأسطوانة هو بالضبط ما يقوله أبو العلا محمد في أسطوانة “بيضافون” ؛ هل تقوم أم كلثوم بتقليد غناء الشيخ أبو العلا محمد لهذه القصيدة ؟ أم هل تقلد الأسطوانة التي سجلها قبلها بخمس سنوات ؟
الفرق شاسع بين أم كلثوم وأبو العلا محمد وهذا باحترام روعة أداء أم كلثوم، ولكننا نشعر بأن أم كلثوم تحفظ هذه القصيدة ولا تأتي بأي شئ من عندها هي فقط تلميذة نابغة تقلد أداء سبق وسجل. فقد ثبتت نهائيا ما كان جزئيا من باب التلحين أو شبه التلحين وكان أيضا جزئيا من باب الإبداع الفوري والآني.
ملاحظة: عذرًا يا سيدي الفاضل أنا مضطر لمقاطعتك لأن وقت الحلقة أوشك على النفاذ، ولكن قبل أن ننهي الحلقة أحب أن ألفت نظر المستمعين ليلاحظوا القصبجي وهو عازف العود مع أم كلثوم، إنه لم يكن يحفظ القصيدة مثل أم كلثوم فقط ولكن كان يسبقها أحيانًا، هذه الملاحظة عكس ما تفضلت به حضرتك عن العازفين مع الشيخ أبو العلا محمد. إلى هنا سادتي نأتي إلى ختام حلقة اليوم من برنامج “سمع” على أمل اللقاء بكم في حلقة جديدة استكمالًا لقصيدة وحقك أنت المنى والطلب.
.
الحلقات الأخيرة
- 221 – زكريّا أحمد – 12 (1/9/2022)
- 220 – زكريّا أحمد – 11 (1/9/2022)
- 219 – زكريّا أحمد – 10 (11/25/2021)
- 218 – زكريّا أحمد – 9 (10/26/2021)
- 217 – زكريّا أحمد – 8 (9/24/2021)
- 216 – زكريّا أحمد – 7 (9/4/2021)
- 215 – زكريّا أحمد – 6 (8/28/2021)
- 214 – زكريّا أحمد – 5 (8/6/2021)
- 213 – زكريّا أحمد – 4 (6/26/2021)
- 212 – زكريّا أحمد – 3 (5/27/2021)
- 211 – زكريّا أحمد – 2 (5/1/2021)
- 210 – زكريّا أحمد – 1 (4/28/2021)
- 209 – والله لا أستطيع صدك 2 (4/6/2017)
- 208 – والله لا أستطيع صدك 1 (3/30/2017)
- 207 – بشرف قره بطك 7 (3/23/2017)