You are here:   Home  /  الإذاعة  /  064 – 3 عبده الحمولي

064 – 3 عبده الحمولي

enar

 

036-YMN-1-A,-Manyalawi,-Mattaa-Hayatak-I-www

تجمع المصادر على أن عبده الحمولي رافق أكثر من مرة الخديوي إسماعيل أثناء تنقلاته إلى اسطنبول، وأنه سنحت له الفرصة بأن يغني ويطرب السلطان عبد الحميد الثاني، وكان سلطان مصر لاحقاً حسين كامل هو الذي كان مكلف بتنظيم أول وفد لموسيقيين مصريين إلى قصر “يلدز”، واختار عددا من الآلاتية والمطربين والمنشدين وعلى رأسهم المطرب عبده الحمولي والمنشد المطرب يوسف المنيلاوي والملحن محمد عثمان والمنشد محمد الشنطوري، ويبدو أنه كان هناك على كل حال علاقات وطيدة ما بين الأوساط الموسيقية وخاصة المنشدين المصريين وأوساط الطرق الصوفية المتواجدة في تركيا والتي لها فروع في تقريبا كل بلدان ومناطق الشرق الأوسط. تكررت زيارات عبده الحمولي إلى تركيا، وتدعي معظم المصادر الموسيقية أن الحمولي تعلم عدداً من الأعمال الموسيقية العثمانية التركية أثاء إقامته في تركيا، وأنه انتقى من ضمن المقامات المستخدمة في الموسيقة الفصيحة التركية تلك المقامات التي كان من الممكن تكييفها وأقلمتها للذوق المصري. وهذا سبق أن تحدثنا عنه كما قلت ربما ينطبق هذا الكلام على القطع الآلية “كالبشارف” “والسماعيات”، ولكن بالنسبة للأدوار والغناء الأمر قد يكون مشكوكاً فيه، بالرغم من أنه لا بد من أن أعترف بأن هناك مقامات متطرق إليها في عصر داوود حسني وإبراهيم القباني لم يتعامل معها عبده الحمولي ومحمد عثمان في نهاية القرن التاسع عشر، وربما كانت إرادة منهما أن يثبتا تمكنهما من هذه الألحان أو من هذه المقامات والنغمات الجديدة.

نحن نتكلم عن مقامات مثل “الكردلي حجازكار” إلخ.

تماما “والبستنكار” أيضا ليس هناك دور “بستنكار” في عهد حامولي وعثمان، مع أنه على فكرة “البستنكار” الذي نسمعه في هذه الأدوار محدود جدا، يعني يمكن أن يكون هناك جملة واحدة في المذهب “بستنكار” ثم يعود إلى المعتاد في الأدوار المصرية.

عبده الحمولي

عبده الحمولي

هذا صحيح، ولكن أيضا معظم المقامات المستخدمة في الأدوار لاحقا، سواء إبراهيم القباني أو داود حسني أو سيد درويش هي مقامات موجودة في “السازندا” التركية في القرن التاسع عشر، معظمها لم يكن موجودا قبل ذلك في الموشحات، فمعظمها أصلا داخل الموسيقى التركية في القرن التاسع عشر، المسار لم يكن موجود قبل ذلك.
صحيح، يبدو أن عبده الحمولي احتفظ بموقع مرموق في أيام توفيق باشا، ويقال بأنه غنى للباشا دور “متع حياتك بالأحباب” بناسبة افتتاح خط “حلوان”.
خط قطار النزهة الصيفي.

خط القطار الواصل ما بين القاهرة “وحلوان”، وطبعا معروف أن عبده الحمولي قضى آخر أيامه في حلوان. نجد في كتاب “الموسيقى الشرقية” بعض المعلومات التي قد تبدو مجرد معلومات طريفة، بل أكثر من طريفة عن اغتناء عبده الحمولي بفضل احترافه الغناء. أنا أرى في الواقع أنها مهمة لأنها تثبت بأنه حصلت طفرة نوعية ليس فقط في نوعية الموسيقى التي نجدها في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، ولكن أيضا في مكانة الموسيقي المحترف في المجتمع المصري ابتداء من هذا الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، عندما اقترنت الموسيقى الفصيحة إن جاز التعبير بالبلاط الملكي وأصبحت فناً معترفاً به من قبل السلطة، لدرجة أن السلطات المصرية كانت تحاول أن تنافس موسيقى البلاط العثماني في نفس الفترة.

أعتقد أصلا أن السبب الذي أدى إلى حصول نهضة كبيرة في الموسيقى هي منافسة البلاط العثماني، السخاء على الموسيقيين، فبالتالي يكون لديهم فرصة أكبر للإبداع وبالتالي منافسة البلاط العثماني.

بالضبط والمعروف أن الحمولي كان مبذراً إلى حد ما، ولكن هذا التبذير لم يمنعه من الاغتناء، لدرجة أنه كان يملك عزبة تبلغ مساحتها مئة فدان في الشرقية، وكذلك بيت في القاهرة في “عابدين” في حارة “التمساح” قريبا من القصر الملكي، ثم بيت آخر في”العباسية” في شارع كان يحمل اسمه بعد وفاته، وكان أيضا يملك بيتا في “حلوان” ربما هداه إليه صديقه باسيل بيه عريان، أظن أن هذا البيت أصبح خرابا منذ سنوات أليس كذلك في “حلوان”؟

هو موجود ولكن حديقته المحيطة به بيعت، وأصبحت تحيط به العشوائيات في “حلوان”، وطبعا لأن “حلوان” أيضا ساء حالها بعد تحويلها من مصيف عظيم ومنتجع سياحي عظيم إلى مصانع إسمنت وحديد وصلب وتلوث، فالمكان كله ساءت حله، بعد أن كان مشفى ودار شفاء أصبح أكثر الأماكن تلوثا في مصر.
دمعة على الزمن الجميل.

للأسف.

الزمن الجميل هنا نحن نقصد القرن التاسع عشر ولا نتكلم عن خمسينات القرن العشرين.

لنستمع إلى “متع حياتك” بصوت الشيخ يوسف، فلم نسمع للشيخ يوسف أبدا.

معلومة مهمة نجدها في كتاب قسطندي رزق وهي أن الحمولي لم يكن يعيش فقط من الحفلات الخاصة، ولم يكن يعيش فقط من هذا المبلغ الشهري الذي كان يتقاضاه من السلطة أي من الخديوي إسماعيل ثم من الخديوي توفيق ثم عباس، كانت هناك حفلات عامة، فكرة أن يشتري الشخص تذكرة ويحضر حفلة في سرادق ثم لاحقا في مسرح ليستمع إلى الموسيقى، فكرة استهلاك الموسيقي لم تكن مقترنة فقط بمناسبات كالأفراح والطهور أو السبوع، ولكن كان هناك حفلات متكررة وكان من الممكن على الأقل للحضريين اللذين يعيشون في المدن أن يدخلوا سرادقات أو أن يدخلوا إلى مسارح ليستمعوا إلى الموسيقى عندما يشاءون، هذا العرف وهذه الثورة في استهلاك الموسيقى بدأت منذ العقود الأخيرة ربما الثلث الأخير للقرن التاسع عشر. فخليل مطران الشاعر اللبناني الذي كان طبعا مقيما في مصر قد حضر في الإسكندرية حفلة مكونة من ثلاث وصلات بصوت عبده الحمولي في سرادق ضخم كان يضم ألف متفرج، وكان الدخول بشرط شراء تذكرة، طبعا ألف عدد كبير جدا، فعندما نتذكر أن هؤلاء المطربين كانوا يغنون دون أي نوع من المايكروفون ودون أي نوع من تكبير للصوت، فمن الصعب جدا وخاصة تحت سرادق أن صوت المغني مهما كان قويا يصل أو يكون مسموعا من قبل ألف شخص، عندما نتحدث عن هذه المسارح التي بنيت في القرن التاسع عشر كمسرح الأوبرا ومسرح الأزبكية وغيرها من المسارح.

أليس من الممكن أن سرادق يقصد به مسرح، هل فعلا كان نظام حفلات عام في الشارع؟

في الشارع ولكن أكيد في الميادين الكبرى، ثم لا أعتقد أن يكون هناك أي اختلاط بين لفظة مسرح أو “مرسح” أو “تياترو” كما كانوا يقولون في القرن التاسع عشر والسرادقات، فالسرادقات هي السرادقات ومفهوم أنها مبنية مؤقتا وأنها تزال بعد الحفلة، الشئ الذي أشك به هو أنه ممكن للمسرح أن يجمع بين ألف متفرج إنما السرادق صعب جدا، إذا كان الصوت يصل إلى مئتي شخص فهذا الحد الأقصى وهو إنجاز يدل على قوة صوت المطرب. هناك شئ مهم أريد قوله وهو أن عبده الحمولي ليس عبده الحمولي كشخص، ولكن عبده الحمولي بالنسبة لي يرمز إلى طفرة نوعية في موقع ومنزلة المطرب والموسيقي في المجتمع المصري في نهاية القرن التاسع عشر. يكفي أن نقرأ كلام كامل الخلعي في كتاب “الموسيقي الشرقي” حين يقول: “كان المرحوم كبير النفس عالي الهمة يحاول الارتفاع عن طبقته، أي عن طبقة المطربين إلى طبقة أولاد الناس ، ويسعى في الخروج منها مقتصرا على الاشتغال بالفن لذاته”، فكرة مقتصرا على الاشتغال بالفن لذاته تعنى أن أكيد عبده الحمولي ومعه يوسف المنيلاوي كانا يشعران أن هناك نوع من الإهانة في كون المطرب الموسيقي يتقاضى أجرا في نهاية الحفلة، لذلك لم يكن المطرب يمسك المال بنفسه، “المطيباتي” هو الذي كان يأخذ الأجرة وفي مرحلة لاحقة يعطي المال للمطرب، لكن هو كان مدعواً، يغني في الحفلة كأحد المدعوين وليس كأجير، الخلعي يضيف أنه لجهل الناس في جيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن وغفلتهم عن جلال منزلته بين الفنون، وناهيك به أن أفلاطون هو حكيم الحكماء جعله مقدمة علوم الحكمة وأول مراتب التهذيب. القرن التاسع عشر هو قرن انتقال الموسيقي من هذا البوهيمي الأجير الذي قد يدعى ولكن بشئ كثير من التعالي في بيوت الأعيان، أصبح هو نفسه من الأعيان في نهاية القرن التاسع عشر .
صحيح.

IMG_7721-wwwحياته العائلية تشهد على أن حرفته أقول حرفة لأن كلمة حرفة تختلف في اللغة العربية عن المهنة، نحن الآن عندما نفكر في المطرب سنقول أن مهنته مطرب، قد لا نقول حرفته لأن كلمة حرفة فيها فكرة اليدوية أو الصناعية، كان إلى حد ما “صنايعي” في نفس الوقت في صناعة الموسيقى. الجدير بالذكر أنه هذه الحرفة التي ربما تحولت إلى مهنة لم تكن تشكل عقبة تحول دون الزيجات الكبيرة، إضافة إلى ابنة المعلم شعبان وألمظ حامولي تزوج ثلاث مرات، الزوجة الثالثة هي التي أنجبت محمود الذي قضى وهو شاب يوم زفافه، سبق أن تحدثنا عن دور “لا يا عين”، وهناك زوجة أخرى أنجبت ابنه محمد الذي كان لا يزال طفلا عندما توفي سنة 1901 في “حلوان”، وكانت زوجته الأخيرة تركية وطبعا تركية من أصل عثماني جلنار هانم، يكفي أن نذكر اسمها جلنار هانم.
لقب.

لقب بالضبط. بالنسبة إلى أسلوب عبده الحمولي، وخاصة إذا أردنا أن نقارن ما بين عبده الحمولي ومحمد عثمان أظن أننا لن نجد أي كلام أفصح من الكلام الذي كتبه خليل مطران.

قبل قراءة خليل مطران دعونا نقول أن أسلوب عبده الحمولي بسيط ولم يكن استعراضيا.

أكيد الاستعراض عند عبده الحمولي هو استعراض في الغناء أكثر منه في التلحين، وهي ذات النقطة التي يذهب إليها على فكرة خليل مطران، يقول: “كان عبده مبتكرا يخلق اللحن خلقا من حاضر ما يوحى به إليه، فيحير به المهرة ويطرب السامعين ما يشاء التطريب بالنغمة والإعجاب بقدرة مبتدعها، وربما كسر القيد ونقض القاعدة وند عن المألوف فطار وحلق”، يمكننا أن نقف هنا ونحلل ماذا يعنى يقض القاعدة وند عن المألوف فطار وحلق، أظن ربما المقصود بهذا الكلام أنه عندما كان عبده الحمولي يلحن دور على مقام معين كان ربما بإمكانه أن يخرج عن هذا المقام ليس في إطار المقامات المقترنة بالمقام الأساسي للدور، وربما أن يطلق العنان لمخيلته الآنية ويدخل في إطار ما نستطيع أن نسميه بالتلحين الآني.

كما حصل في “لسان الدمع” بدأه “عراق” وختموا “بياتي”.

تمام وهذا على فكرة ما نستطيع أن نستمع إليه لأنه هناك تسجيل نادر بصوت عبده الحمولي وهي الوجه الثاني أو ربما الكباية الثانية.

الكباية الثانية لدور “لسان الدمع”.

أكمل يا سيدنا.

يقول خليل مطران: “وقد بكم العود وعي القانون وأنصت الناي”، بكم العود وعي القانون وأنصت الناي هل يقصدون بذلك أن الآلات المصاحبة للتخت كانت تتوقف عن العزف ليكون الغناء منفردا بحيث أنه لا يكون هناك أي مرافقة آلية، أو فقط أنه كان يصيبهم ربما حالة من الهلع الفني أمام ما يقوم به سي عبده؟ لا أدري ربما كانوا يتركونه لثوان يغني بدون أي مصاحبة آلية.

أو يعطونه مزن.

“وكان يطلق صوته يمرح في سماء التطريب، فمن وثبة النسر إلى انحدار السيل إلى خطف البرق إلى تغريد القمري إلى نوح الحمامة إلى أنين الجدول، كان هذا الصوت عالٍ منخفض جهوري خافت رنان مرتجف مشبع ضئيل، والنغمات تجتمع أصولا وتتفرق فروعا وتتثنى وتتفرد وتتدانى وتتباعد وتتواصل وتتفاصل مفضية بعضها إلى بعض ومتسلسلة على مقتضى سلامة الذوق والمهارة الفنية منتهية إلى القرار”. وبعد ذلك خليل مطران يقارن عبده الحمولي بأهم منافس له الذي هو طبعا محمد عثمان، ويقارن بينهما قائلا: “وكان عثمان مؤلفا بارعا في ترتيب الألحان”، أظن هنا كلمة مؤلف هي مهمة جدا، فعندما يتكلم عن عبده الجامولي يقول “مبتكر يخلق اللحن خلقا”، عندما يتحدث عن عثمان يقول: “مؤلف بارع”، العبقرية من جهة والبراعة من جهة أخرى وكأنه ينزع من محمد عثمان صفة العبقرية والخلق والابتكار ويفضل فكرة البراعة في الصنعة، “الصنايعي” بالنسبة إلى خليل مطران هو محمد عثمان، يقول: “مؤلف بارع في ترتيب الألحان بصير بأخذ النغمات من مواضعها وجمعها على نسق مستحب”، مرة أخرى كلمة نسق يعني فكرة الترتيب فكرة البراعة في التنسيق بين شتى الأفكار، “كان كلفا بصناعته جادا في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق، ولهذا كان لا يغني منفردا ولا يطلق صوته إلا على أجنحة الآلات”. “كان كلفا في صناعته جادا في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق”، واضح أن في رأي خليل مطران أن محمد عثمان لم يكن مطربا أو لم يكن بارعا، ربما كان مؤديا فقط، ولكن هو ملحن في المرتبة الأولى، ويضيف “ولهذا كان لا يغني منفردا ولا يطلق صوته إلا على أجنحة الآلات فإذا لحن أغنية وأسمعها الناس لأول مرة خرجت متقنة صحيحة الوضع رائعة للسمع، ولكن يبدو عليها أثر إعنات الفكر ويشتمّ منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها”. هذا كلام قاسي جدا أليس كذلك؟

قاسي ولكنه أيضا جميل، يعني هما مدرستان متقابلتان.

هما فعلا مدرستان متقابلتان، فكرة أن محمد عثمان في هذا الخطاب يمثل التلحين يمثل التثبيت، يمثل الميل إلى تثبيت اللحن، بينما عبده الحمولي يمثل الميل إلى التطريز على مادة قد تكون مادة لحنية محدودة جدا، إنما الاعتماد على المطرب، الاعتماد كله على المطرب المبتدع الذي يستطيع أن يطور بلا نهاية بشكل لا نهائي هذه المادة الأولية هذه المادة الخام، بينما عند محمد عثمان ليس هناك ما يمكن أن يسمى بالمادة الخام، هو فعلا الملحن بكل معاني الكلمة، لكن في فكرة الشمع المذاب في السهر على تخريج الأجزاء، فكرة أن اللحن عندما كان يسمع لأول مرة عندما يكون محمد عثمان قد انتهى من تلحين هذا اللحن للتو، هذا اللحن لم يكن جاهزا تماما، أو ربما يقول أن اللحن كان يخرج تاماً صحيح الوضع رائع للسمع، ومع ذلك نفهم من هذه السطور أنه كان ينقص هذا اللحن شيئا.

أعتقد أنه يقصد أنه ينقصه الارتجال والتطريب الذي يقوم به عبده الحمولي.

لكن لا ننسى أن الارتجال أنواع، الارتجال قد يكون فقط ارتجال زخرفي، وهذا الارتجال الزخرفي أظن أن أي مطرب متمكن من فنه في مقدرته أن يقوم بهذا الارتجال الزخرفي، إنما يتحدث عنه هنا خليل مطران هو نوعية الارتجال الذي كان يقدمه عبده الحمولي، هذه النوعية كانت تتفوق بمراحل على الارتجال الزخرفي وكانت تسمو إلى مستوى الارتجال الإبداعي الارتجال التلحيني، قد يحذف أو يضيف أكيد في معظم الحالات جمل لحنية ربما لم يفكر فيها الملحن الأصلي للحن، وأن الدور لا يأخذ مكانته ويكون جزءا من هذه الحصيلة الموسيقية المشتركة بين هذا الجيل من المطربين إلا عندما يطوع مثل هذا المطرب اللحن العبقري الذي تسلمه، وهي على فكرة فكرة جريئة جدا في العرف العربي، نفهم من الكتب التراثية أن ما نتسلمه من الأجداد لا بد من أن نسلمه كما كان، لا يصح أن يطرأ على العمل سواء أكان شعراً أو حديثاً عن أي نوع من التغيير، لأن التغيير يكون بمثابة الإفساد، أما هنا المسألة هي مغايرة تماما لهذه الفكرة التقليدية، وهي أن الإضافة والتغيير ليستا من باب الإفساد بل بالعكس من باب الإغناء. ويضيف خليل مطران بعد أن قال أنه كان “يشتم ريح الشمع المذاب في السهر لتخريج أجزائها وتوجيه دروبها والملائمة بين رناتها ومعانيها على أن هذا لا ينفي أن عثمان كان ضريب عبده، وأنه أثبت بنتيجة عمله أن لحسن التأليف مكانا بجانب الابتكار، وأن للإجتهاد منزلة قد تعادل منزلة الاختراع، اجتهاد من جهة اختراع من جهة أخرى، وربما تقوم عبقرية الموسيقى العربية على هذه العلاقة الجدلية ما بين الاجتهاد والاختراع، بل أن المجتهد قد يكون ذا فضل على المخترع بما يهيئه له من مواد الابتداع، مع أن هذه الجملة التي قالها خليل مطران تضع في الواقع المجتهد في خدمة المخترع، أنا أشعر أن هناك نوع من التراتبية بين الاثنين، بمعنى أن هناك من يمد المخترع بالمادة التي هو بحاجة إليها، لكن المخترع هو الوحيد الذي يستطيع أن يطور هذه المادة الخام ويستخرج منها ما هو فعلا بمثابة الجوهرة. ومن الحق هذا كلام مطران: “ومن الحق أن عثمان كان في أخريات هذه السنين واضع معظم ألحان فيأخذها عبده الحمولي عنه ويكسوها من الحلل والحلي ما تشاء بديهته الخاصة به، فبين هي السوقة حسان إذا هي ملكات بتيجان”. كلام قاسي جدا، يعني وكأن الألحان التي ألفها محمد عثمان هي فقط فتيات ريفيات جميلات، لكن حمالهن ريفي يحتاج إلى شئ من التهذيب والصقل ليكون مقبولا في الأوساط الحضارية، “وبين هي أشخاص ترمقها عيون المعجبين إذ هي أرواح تتنسمها قلوب المحبين، وعلى هذا كان عثمان يجدد للناس روح عبده، وعبده يسمع الناس علم عثمان، فهما العاملان المتكاملان أحدهما بالآخر على ما بينهما من تحاسد وتباغض وتباعد، هل تؤمن فعلا أنه كان هناك تحاسد وتباعد وتباغض ما بينهما؟
لو كان هناك تحاسد وتباغض وتباعد هل كان سيغني له؟ هل هذا منطقي؟ لم يكن هناك تسجيلات لسماع هذه الألحان فمن المؤكد أنه كان يسمعها منه مباشرة فكيف؟ فلو كان هناك تباعد ما كان ليسمعه ويحفظه أليس كذلك؟

أكيد.

لكن أعتقد أن علاقة المخترع والمجتهد انقلبت لاحقا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن، أصبح الملحن هو المخترع والمطرب هو المجتهد، يعني المطرب يضيف أشياء بسيطة، الاختراع مهمة الملحن.

تمام لدرجة أن الملحن كان يثبت عبقريته والمطرب يلحق به، لا يسبقه بل يلحق به.

فأعتقد أن هذه الجدلية انقلبت لاحقا عندما دخلت فكرة تأليف تلحين اداء لشركة الاسطوانات أو الحفلات.

 

  2014  /  الإذاعة  /  Last Updated يونيو 12, 2014 by Amar  /  Tags:
WP-Backgrounds Lite by InoPlugs Web Design and Juwelier Schönmann 1010 Wien