You are here:   Home  /  الإذاعة  /  107 – التقسيم 1

107 – التقسيم 1

enar

 

002--B--Memdouh-Effendi,-Higaz-Kaman-Aylah-Taqsim-wwwأصدقاءنا المستمعين، أهلاً وسهلاً بكم في حلقةٍ جديدةٍ من برنامج نظامنا الموسيقيّ، في هذه الحلقة وما بعدها نتناول أحد أهمّ مظاهر ومميّزات الموسيقى المقاميّة في العموم، والموسيقى العربيّة في الخصوص، وهو التقسيم:

هو أحد القوالب الآليّة التي تميّز الموسيقى المقاميّة في العموم، والموسيقى الفُصحى العربيّة في الخصوص. هو قالبٌ مُرتجلٌ بامتياز، يعتمد اعتماداً كلّيّاً على فِكر المؤدّي وعلاقته بالنغم، ورغم أنّه مُرتجل، إلا أنّه قالبٌ في أنٍ واحد، فكلّ تقسيمٍ مُرتجلٌ بالضرورة، وليس كلّ ارتجالٍ تقسيمٌ على الإطلاق. فإذا حفظ أحد المؤدّين تقسيماً عن مؤدٍّ آخر، فإنّه بهذا يؤدّي قطعةً قرّر هو أن يثبّتها، لكن إن رام التقسيم، فلا بدّ أن يكون الناتج النغميّ منبعثٌ من فكره هو ولو استوحاه من حصيلة خبرته ومراسه للنغم.

يأتي التقسيم كثالث فقرةٍ في وصلة المقام العربيّ، وموقعه بعد الاستهلال الآليّ (بشرف أو سماعي) فالموشّح، وهذه ليست قاعدةٌ في سائر التقاليد المقاميّة، ففي فاصل الغناء التركيّ، مثلاً، يُستهلّ بالتقسيم، فهو قبل العمل الآليّ وليس بعده. وهذا اختلافٌ يفضي إلى تنوّعٍ وتعدّدٍ في تقاليد النظام المقاميّ في مُجمله. نعود إلى وصلة المقام العربي: فقرة التقسيم من المفترض أنّها فقرةٌ خاليةٌ من الإيقاع الدوريّ، أي أنّ الإيقاع فيها هو إيقاع الوزن الداخليّ للجملة. وتضمّ الفقرة تقسيمٌ لآلةٍ منفردةٍ ثمّ ليالي وموّال، وقد أسلفنا تفصيل هذه الفقرة في حلقاتٍ سابقةٍ عن الوصلة. وارتباط فقرة التقسيم بفقرة الليالي لها دلالةٌ ما على أنّ ما يفعله المطرب في الليالي هو ارتجالٌ على مقاطع صوتيّةٍ ليس المقصود منها الدلالة اللغويّة، فهو يعامل صوته على أنّه مصدر نغمٍ لا يريد من خلاله إيصال معنىً كلامياً ما، وحين جزّء دخول التسجيل الوصلة بسبب محدوديّة وقت التسجيل، كانت فقرة التقسيم ليالي تضمّ عادةً وجه اسطوانة، ومن هذه التسجيلات نستمع إلى فقرة تقسيم ليالي من نغمة البيّاتي، نستمع إليها من عبد الحيّ حلمي، غناء، وإبراهيم سهلون، كمان، ومحمّد إبراهيم، قانون. التسجيل لشركة زونوفون، المنبثقة عن الجراموفون، حوالي عام 1905 على وجهٍ واحدٍ قطر 25 سم، إصدار رقم: X-102545 مصفوفة رقم: 7817 b

كما يتّضح فإنّ التقسيم ليالي هو حوارٌ بين الصوت والآلة، حوارٌ مبنيٌّ على ترجمة الآلة لما يقوله الصوت، ومحاولة الصوت لمحاكاة الآلة، فالعلاقة بينهما علاقةٌ لغويّةٌ محضة، فهندسة الجملة النغميّة قائمةٌ على وزن تفعيلة كلام اللغة، ليس اللغة العربيّة فحسب، بل كلّ اللغات التي اتّخذت التفعيلة دليلاً لوزن كلامها وشعرها، وعلى سبيل المثال والمقارنة، سنستمع إلى تقسيمٍ من نفس المقام، على نفس الآلة، الكمان، سنستمع إلى تقسيمٍ من نغمة الحجاز من عازف كمانٍ تركيّ هو ممدوح افندي، لشركة زونوفون أيضاً مسجّلة عام 1903 إصدار رقم X-107904 مصفوفة 496 z نتبعها بتقسيمٍ من نفس النغمة “نغمة الحجاز” من عازف كمانٍ عربيّ هو إبراهيم سهلون مسجّلة كذلك لزونوفون بعد سابقتها بأقلّ من عامين، كذلك لشركة زونوفون إصدار X-107908 مصفوفة 7808 b

يُرجى منكم سادتي المستمعين محاولة مقارنة نهج الجملة النغميّة مع ما كان من قسمة النغم في فقرة التقسيم ليالي التي استمعنا إليها، كما يُرجى تعقّب الحركات النغميّة والانتقالات في التقسيمتين وفارق اللهجة في العزف وتقارب الأبعاد ووحدة النظام النغميّ.

يبدو أنّ أصل كلمة تقسيم موغلٌ في قدم تاريخ الموسيقى العربيّة، ولا نقصد بهذا قدم قالب التقسيم نفسه، بل الحديث عن مصدر الكلمة، أي لماذا اختيرت كلمة تقسيم لتسمية هذا القالب: في كتاب الأغاني وغيره من كتب العصر العبّاسيّ والفاطميّ، تأتي عبارة قسمة الكلام على النغم، أو قسمة الشعر على اللحن، أو ما شابه، فيأتي مثلاً في كتاب الأغاني أنّ إبراهيم الموصليّ كان حاذقاً في تعليم المغنّيات فنّ الغناء، فكنّ يحسنّ على يديه قسمة الشعر على لحن الصوت، فيبدو أنّ مسألة قسمة الكلام على النغم قد تطوّرت لتشمل قسمة الجملة النغميّة نفسها، ومن هنا يمكن أن يُفترض سرّ تسمية هذا القالب بالتقسيم.

ومن التقسيم ما هو فالتٌ دون إيقاعٍ دوريّ، ومنه ما هو غير ذلك، نتحدّث عنه في حلقاتٍ لاحقة، لكنّ معرض حديثنا هنا عن التقسيم الفالت، أي الذي لا دورةً إيقاعيّةً فيه. ونكرّر هنا، أنّ عدم وجود الدورة الإيقاعيّة لا يعني غياب الإيقاع، إنّما هندسة الجملة النغميّة في الموسيقى المقاميّة منبنيةٌ على إيقاعٍ داخليٍّ لتفعيلةٍ لغويّةٍ أفقيّةٍ غير مشروطةٍ بدورةٍ إيقاعيّةٍ أو بناءٍ هندسيٍّ رأسيّ.

وسرّ اختلاف التقسيم عن أشكال الارتجال الأخرى، رغم أنّه تامّ الارتجال، هو ما وضعه له الزمن من قواعد نغميّةٍ بعضها يُمكن وصفه وشرحه، وأغلبه يعجز الكلام عن تفسيره إنّما يُفهم بالمراس والمران والسماع.

فالتقسيم هو عرضٌ لنغمةٍ ما، وإيلاجها في روح المتلقّي من المؤدّي، ولا يتمّ هذا إلا إذا شربت روح المؤدّي للنغمة وتشبّعت منها بحفز وتأويل العديد من الأعمال على اختلاف قوالبها صيغت من النغمة، ومن ثمّ سماع العديد من المؤدّين المرشدين له، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. من خلال هذا العمل، يستطيع المؤدّي صياغة تقسيمٍ ممّا شاء من نغماتٍ أصيلةٍ أو مولّدةٍ أو فرعيّةٍ أو مركّبة.

والتقسيم يُشبه كتابة مقالٍ أو تناول وجبةٍ أو حتّى صلاة، لا يمكن الولوج إلى متنه دون تقدمةٍ ولا يمكن الخروج منه دون ختام، فهو استهلالٌ يعرض سير المقام بهدوءٍ وتصاعدٍ، ثمّ متنٍ يستعرض المقام صعوداً وهبوطاً من في سائر أجزاءه، “جذره وجزعه وغصنه وذروته” بعدها يمكن للعازف التفرّع إلى أحد فروعه عرضاً أو انتقالاً، وفي الخاتمة يعود المؤدّي إلى أصل المقام ومقرّه بطريقةٍ عكسيّةٍ للطريقة التي صاغ فيها مقدّمته.

 

رياض السنباطي

رياض السنباطي

 

 

كنموذجٍ لهذا نستمع إلى تقسيمٍ على العود من نغمة الراست من رياض السنباطي سجّلها في سبعينات القرن العشرين ونشرتها صوت القاهرة في إصدارٍ حوى 6 تقاسيم على العود لرياض السنباطي.

إلى هنا سادتي المستمعين نصل إلى ختام حلقة اليوم من برنامج نظامنا الموسيقيّ، إلى أن نلتقي في حلقةٍ جديدةٍ نواصل فيها الحديث عن أنواع التقسيم وأشكاله، نترككم في الأمان.

 

  2015  /  الإذاعة  /  Last Updated أبريل 16, 2015 by Amar  /  Tags:
WP-Backgrounds Lite by InoPlugs Web Design and Juwelier Schönmann 1010 Wien